د. أحمد الخميسي
ثمت مدرسة صحفية عريقة تقول لا تكتب عن كلب عقر شخصا، اكتب لو أن شخصا عقر كلبا. والقصد ألا تتناول ما هو مألوف واعتيادي لكن ابحث عن الاستثنائي، النادر، الغريب. قد يكون ذلك مفهوما في الصحافة المرتبطة بضرورات التوزيع لكن الأمر يختلف تماما في الأدب والفن. تطرح ذلك السؤال المجموعة القصصية " حانة العادات" تأليف الكاتب الفرنسي فرانز بارتل ترجمة عادل أسعد الميري، وهو سؤال مهم نظرا لأن الكثيرين من الكتاب الشباب يلهثون وراء الغرائب وكل ما هو استثنائي وفريد من نوعه. تضم المجموعة ست عشرة قصة قصيرة تتناول جميعها شخصيات يستحيل تقريبا أن تراها في
 
الحياة وأحداث تكاد لا تقع بالمرة. وفي قصة " وجه القاتل " على سبيل المثال نرى " جيف" الشخصية الرئيسية يتسلى  بتقليد وجه قاتل لأطفال العائلة بتكشيرة مرعبة وعينين جاحظتين، ومع الوقت يكتشف " جيف" أن لديه بذلك التقليد قوة وسلطة تمكنه من تخويف الآخرين فيتمكن بإثارة الخوف من حل بعض مشكلاته اليومية، وهكذا إلى أن يلتقي " جيف" بامرأة تبادله الحب، لكنها تطلب منه خلال العلاقة الحميمة أن يرعبها بوجه القاتل لأن ذلك يثيرها فيستجيب لها، ثم تتمادى وترجوه أن يخنقها خلال ذلك، فيفعل، فتتجه المرأة لتشكوه إلى الشرطة بدعوى أنه كان يعتزم قتلها! وفي نهاية القصة تؤكد له أنها قدمت شكواها ليترسخ بداخلها أنه مرعب ومن ثم يزداد عشقها له.
 
نحن إذن في مواجهة حالة استثنائية، سواء من ناحية الحدث أو الشخصيات أو خلاصة العمل الأدبي. على هذا المنوال تمضي بقية قصص المجموعة مثل قصة " ذكرى فريد" الذي سافر في رحلة إلى إفريقيا فعاد من هناك أسود اللون! وكذلك قصة " قاتل تسلسلي" وغيرها. عامة نحن إزاء وقائع استثنائية وشخوص يستحيل تقريبا أن يكون لها وجود في الواقع. ولا شك أن تناول الأحداث الاستثنائية يخرج بالأدب والفن عن مدار التكرار والتقليد والرتابة، إلا أن السؤال يطل برأسه بقوة: ثم ماذا؟. نحن نقرأ مثل هذه القصص بنهم لكن.. ماذا بعد؟. تظل تلك
 
الحالات الاستثنائية مجرد وقائع غريبة، باهرة، طريفة، مسلية، مالم تنفذ إلى حقيقة أبعد وأعمق. وعلى سبيل المثال فإن رواية جوناثان سويفت 1667-1745 الشهيرة " جوليفر" تقوم بجزئيها على احتمال استثنائي أن يصبح الانسان مرة عملاقا بين أقزام، وأن يغدو مرة أخرى قزما بين عمالقة، لكن سويفت يستخدم ذلك الاستثنائي لكشف الواقع، عندما يقول لنا إن الانسان يحتوي على كل مواطن القوة والعملقة ويحتوي أيضا على كل مواطن الضعف والتقزم. عند سويفت أصبح الاستثنائي أداة لكشف الحقيقة.
 
في ذلك السياق هناك أيضا قصة الأنف لجوجول التي نشرها عام 1836. في القصة يستيقظ " كوفاليوف" وحين يحدق بالمرآة لا يجد أنفه ! فيخرج لتقديم بلاغ إلى الشرطة وفي الطريق يرى أنفه مرتديا بذلة أنيقة ويركب عربة خيول. يطارد " كوفاليوف" أنفه ويطلب منه العودة إلى وجهه، لكن الأنف يرفض! بالطبع نحن هنا إزاء حدث استثنائي، وشخصية استثنائية، لكن هذا وذاك يتم استخدامهما للكشف عن الحياة الروسية حينذاك وأناسها وطبيعة العلاقات في المجتمع، ومن ثم فإن الحدث الاستثنائي لا يتوقف عند كونه حدثا طريفا أو نادرا، لكنه يمسى وسيلة لكشف
حقيقة ما.
 
يلجأ كافكا إلى ذلك في روايته الشهيرة " المسخ" التي نشرها عام 1915 ، وفيها يستيقظ التاجر"جريجور سامسا " ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة بشعة. ولكن كافكا لا يتوقف عند استثنائية الحدث، أو لمجرد أنه حدث يكسر رتابة الأدب، لكنه ينطلق من ذلك ليؤكد أن الاغتراب قد يسحق الانسان حتى لا يعود إنسانا.
 
الحالات الاستثنائية في الأدب لابد أن تكون طريقا لفهم الحالات العامة غير الاستثنائية،أو أنها ستبقى كما هي عند " فرانز بارتل" مجرد حالات مسلية ومشوقة، لكن الانسان لا يكتفي بذلك في الأدب. وقد كان للروسي العظيم تشيخوف سؤالا قريبا من الموضوع حين قال : " لا أدري لماذا يعشق البعض قصص الأشباح التي تظهر في الليل مع أن بالحياة الكثير من الأشياء المرعبة حقا".