عاطف بشاي
رأيت بعض الأديبات البازغات.. والناقدات الفضليات والناشطات المنتميات لحزب «النساء قادمات» اللاتى يناهضن الرجال الديناصورات ويحلمن بفض القبيلة الذكورية من الوجود.. دأبن على اتهام أديبنا الكبير «نجيب محفوظ» بالاقتصار فى رواياته على رسم شخصياته النسائية لنماذج سلبية من الغوانى والعاهرات.. والراقصات والعوالم والمحظيات اللاتى وجد فيهن المخرج «حسن الإمام» ضالته المنشودة فى حبك الميلودراميات المحتشدة بالأجواء الماجنة.. والمباذل الأخلاقية والصور الفاضحة للفحش والرذيلة فى ثلاثية «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» وغيرها من الروايات كـ«حضرة المحترم» و«السمان والخريف» و«القاهرة الجديدة» لمخرجين آخرين.. وإذا تفضل على القراء بتجسيد شخصيات محتشمة فاضلة فلا تستهويه إلا الزوجات الجاهلات المقهورات الخاضعات لسطوة ونفوذ وجاه وإرادة الرجل الجبار شأنهن فى ذلك شأن الجوارى والخادمات.. وأنهن بوضعهن المتدنى ذلك راضيات مستسلمات.. فرغم أن أمينة فى «بين القصرين» توسلت بقوة الدين فى النفوس للذهاب للتبرك بمقام سيدنا «الحسين» فلم يحمها ذلك من بطش السيد «أحمد عبدالجواد» وطردها من البيت.. لكنها ترى نفسها فى النهاية مذنبة تستحق العقاب وتقبل بطيب خاطر أن تبقى ذليلة فى بيت أمها تنتظر عفوه وتهفو إلى تسامحه.. وكانت قد تعلمت درساً هاماً مثل بالنسبة لها دستوراً لا تحيد عنه فى علاقتها به حينما أبدت اعتراضاً مؤدباً على سهره المتواصل خارج المنزل فقال لها بصوته الجهورى: «أنا رجل.. الآمر الناهى.. لا أقبل على سلوكى أى ملاحظة.. وما عليك إلا الطاعة... فحذارى أن تدفعينى إلى تأديبك» فقر فى نفسها أن الرجولة الحقة والاستبداد صفات متلازمة لجوهر واحد.. فظلت على جميع الأحوال الزوجة المستسلمة ولم تأسف يوماً على ما ارتضت لنفسها من السلامة والتسليم.. بل انقلبت مع الأيام تباهى بما يصدر عنه سواء ما يسرها أو يحزنها.. بل إنها استنكرت موقف زينب زوجة ياسين ابن زوجها حينما ظبضته يخونها مع خادمتها فى سطوح المنزل.. ودهشت أمينة من غضب الزوجة لكرامتها المهدرة، إذ كيف تدعى لنفسها من الحقوق ما لم تدعه امرأة قط وتهجر البيت وتطلب الطلاق.. «لا ريب أن ياسين قد أخطأ فى حق أبيه وحرمته.. لا فى حقها هى.. إن زينب من هذا المنطلق تعتبر أول متمردة ارتبطت بهذه العائلة وأبت أن ترضخ لعبودية السيد المطاع... وتسقط الأقنعة عن وجوه الرجال الزائفة.. وتعرى نفوسهم المريضة.. وازدواجيتهم المزرية.. وتبرئ (نجيب محفوظ) من تصورات المبدعات بدعوى أنه شخصياً لا يرى فى المرأة إلا تلك المكانة المتدنية الخانعة.. ويؤمن كما يؤمن أبطال رواياته الرجال أن دورها فى الحياة لا ينبغى أن يخرج عن هذا الإطار»..

إن الطاغية الكبير الذى صب جام غضبه على ابنه الطاغية الصغير بعد الواقعة.. ليس باعتبارها سقطة أخلاقية أو خطيئة تخضع لنواه دينية تتصل بالحلال والحرام.. وإنما لأسباب اجتماعية طبقية.. إنه لا يمانع أن يسكر ابنه ويزنى.. لكن أن تسول له نفسه أن يعاقر خادمة حقيرة فى بيت الزوجية.. فتلك أم الكبائر لأنه بذلك يوحل فى القذارة حيث لا يرتبط الجنس مع المرأة مثلما يفعل هو بالرفاهية والمنظر البهيج والمجلس الأنيس وما يتبعهما من شراب وسمر وغناء.. فعشيق السلطانة رجل صاحب طرب ومزاج ولا يخلو مجلسه من العود والدف والكأس والضحك.. أما ابنه فالجنس لديه شهوة عمياء وغريزة حيوانية.. فكل امرأة عنده رغيبة حتى لو كانت خادمة.. فأى صورة مخزية تلك التى تحط من كرامة أولاد الأصول، وظهر ذلك فى باقى شخصيات «بين القصرين» مثل ياسين والسيد الجبار.

إن «نجيب محفوظ» يخلق شخصياته بصرف النظر عن جنسهم رجالاً كانوا أم نساء.. بعقل المتأمل فى نوازع النفس الإنسانية المتضاربة.. فيسبر أغوارهم ويكشف تناقضاتهم ونقائصهم ومحاسنهم.. تقواهم وفجورهم.. ويتركهم يشكلون دراما الحياة.. فيدفعون بالأحداث إلى الأمام.. وينتقل بهم من الخاص إلى العام.. وينشأ التأثير المتبادل بين المصير الشخصى.. والمصير الاجتماعى والسياسى فى نسيج مبهر حيث يصبح أبطاله وعلى رأسهم السيد «أحمد عبدالجواد» رموزاً لعصر.. وإدانة لزمن.. إنها حالة الإنسان والمجتمع.

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم