خالد عكاشة
صباح الخميس الماضى، سقط من الضحايا المدنيين فى منطقة الباب الشرقى، قرب ساحة الطيران ببغداد، ما يتجاوز (30 ضحية و120 مصاباً) فى تفجيرين انتحاريين نفذهما شخصان تمكنا من التسلل إلى هذه المنطقة التجارية الشعبية، المكتظة عادة فى مثل هذا التوقيت من اليوم بالمرتادين والمارة وعمال اليومية. الانتحارى الأول ادّعى وسط هذا الخليط من البسطاء أنه مريض ويشعر بتعب مفاجئ، فتجمّع الناس حوله لمساعدته، ففجّر نفسه فيهم. وحين هرع أهالى المنطقة والموجودون بالجوار بأعداد أكبر لينتشلوا الضحايا، فجّر الانتحارى الثانى العبوة الأكبر التى يحملها فى هذا الجمع ليصطبغ المشهد كامله بالدماء.

فى مسرح الجريمة المذهلة فى بعدها الإنسانى البصمة الداعشية لا تحتاج إلى كثير من التفتيش، فتلك المنطقة التى كانت سابقاً رقماً رئيسياً فى تفجيرات بغداد الكبرى أثناء أعوام الذروة، تحظى باستقرار وهدوء أمنى لنحو ثلاث سنوات مضت، لذلك يطل هذا الاختراق الجديد برأسه ليحمل معه نذر العودة الداعشية، رغبة من التنظيم فى العودة لاستهداف القلب، تزامناً مع تنفيذ عمليات أخرى، مثل ما جرى فى تفجير «محطة جرف الصخر» الكهربائية قبيل عملية بغداد المزدوجة بثلاثة أيام، وهى فى موقع يبعد نحو 100 كم جنوب بغداد بمحافظة بابل. وبالفعل لم تمض أيام قليلة حتى أعلن «داعش» عن تبنيه لعملية بغداد، فليس هناك خجل أو تخفٍّ من أى نوع، فالإعلان فى حد ذاته متعمّد ومطلوب من التنظيم، كى يبعث برسائله التى تقف وراء موجة التصعيد الواضحة للعيان الآن بأكثر من أى وقت مضى. فالتنظيم يريد الخروج من حالة الكمون التى مارسها خلال شهور العام الماضى، فى ظل خشية تعرض عناصره لجائحة كورونا وما صاحبها من تقييد للحركة بشكل عام، ليعود مرة أخرى لاستثمار حالة الانقسام والتوتر التى تسود جنبات العراق، ممثلة فى تحركات رئيس الوزراء الكاظمى ضد ميليشيات «الحشد الشعبى»، فى حين تقوم الأخيرة بالعديد من أشكال الفعل المضاد لهذا التوجه الكاظمى الذى يستهدف استعادة مؤسسات الدولة.

لذلك برز مجدداً هذا التوجه لدى رئيس الوزراء العراقى، وهو يتفقد بنفسه موقع هجوم بغداد ويصدر على الفور حزمة من قرارات تغيير قادة المفاصل الأمنية للعاصمة، عقب الاجتماع الأمنى الموسع الذى عقده مع وزراء الدفاع والداخلية والأمن الوطنى، وضم له رؤساء أجهزة الاستخبارات وقيادة عمليات بغداد. وحرص فى حديثه المعلن الذى عكس جانباً مهماً من الأزمة أن يؤكد على ضرورة «عدم السماح بتشتت الجهد الاستخبارى، أو تعدد مصادر القرار فى القوى الأمنية، وأن التغييرات الأخيرة لن تخضع بأى حال للضغوطات والإرادات السياسية». كلمات دالة بالطبع، وتبدو كتشريح دقيق لأبعاد ما تعانيه الجبهة التى تكافح «داعش» وغيره من عناوين التهديد الأمنى التى ما زالت حاضرة بالعراق. فلم تمض أيام على عملية بغداد حتى تعرض أحد الكيانات العسكرية الرئيسية التابعة لـ«الحشد الشعبى» فى محافظة صلاح الدين، شرق مدينة «تكريت»، لهجوم بدا فيه التنظيم وقد استخدم عناصر وإمكانيات أكثر احترافية، خاصة أنه نفذ على هيئة «كمين» تمكن من اعتراض رتل من قوات (اللواء 22)، التابع لمنظمة «بدر»،، ما أوقع (11 قتيلاً) و(8 مصابين)، بينهم أكثر من قيادى بميليشيا الحشد. وهذا مشهد مركب آخر يلقى بظلال قاتمة عن أنماط إعادة إنتاج الاقتتال الداخلى بين العديد من الكيانات المسلحة التى ما زالت حاضرة وبقوة على هوامش أجهزة الأمن العراقية الرسمية.

جائحة «كورونا»، التى قيدت حركة الجيش والقوات الأمنية العراقية، فتحت الباب أمام تنظيم «داعش» كى يعيد ترتيب صفوفه، ويستعد لما بعد زوال هذا الظرف الاستثنائى. فضلاً عما أشارت له تقارير استخباراتية أمريكية وعراقية من نجاح التنظيم فى تنفيذ عمليات «هروب» من السجون الخاضعة لإشراف «قوات سوريا الديمقراطية» لينجح عدد، قدّرته التقارير ما بين (500 إلى 1000) عنصر، فى التسلل مرة أخرى من سوريا إلى العراق والانضواء تحت راية التنظيم من جديد. الاستخبارات العراقية تعود بهذا الأمر كونه أسهم إلى حد كبير فى إنتاج هذه الموجة من التصعيد، فى الوقت الذى تراه قيادة قوات التحالف الدولى عرضاً خطيراً لخطوة تخفيض أعداد القوات الأمريكية، التى ظلت تفرض رقابة صارمة لسنوات على المنطقة الحدودية ما بين البلدين نجحت خلالها فى إجهاض الكثير من محاولات التسلل. ووفق ذلك تظل الخشية المشتركة أن تسهم مثل هذه الأوضاع على المنطقة الحدودية الطويلة والصعبة، التى تضم أغلب المناطق والقرى جنوب وغرب الموصل وغرب الأنبار وصلاح الدين، فى استعادة التنظيم لعافيته مرة أخرى، خاصة داخل العراق، التى يمتلك على أراضيها وفى دروبها الكثير من الميزات التى تصب فى هذا الاتجاه.

«داعش»، من حيث قدراته المالية، يظل قادراً على الوصول لهدفه التكتيكى خلال فترة وجيزة، أو إعادة وضع نفسه فى صلب مهددات معادلة الأمن العراقية وإنتاج مزيد من المخاطر فى الفترة القليلة القادمة، خاصة وقد تحول إلى العمليات الأكثر مرونة، والأقل من حيث تخفف من متطلبات فرض «خلافته» المزعومة. كما أن فترة الكمون المشار إليها استغلتها قيادات التنظيم فى إعادة تأمين خطوط الإمداد المالى، والتى يشير الكثيرون ممن يتتبعون النشاط المالى للتنظيم إلى أن استثماراته فى كل من العراق وسوريا وتركيا ما زالت تعمل على نحو جيد نسبياً، ولها من الغطاءات التى تكفل لها قدراً من الاستمرارية، تحقق من خلالها أرباحاً تمكنها من إعاشة عناصرها، والإنفاق على العمليات والهجمات التى تظل منخفضة التكلفة، رغم ما تحققه من تأثير بالغ مثل الأخيرة التى وقعت ببغداد. وبقى أن الذى تضرر جرَّاء الضربات التى تلقاها التنظيم أثناء إجلائه عن المدن الرئيسية التى كان يسيطر عليها، هى فقط خطوط الإمداد، ويبدو اليوم وبعد مضى تلك الفترة أنه قد تمكن من إصلاح هذا الخلل، ليستعيد قدرة تدوير عوائد هذه الاستثمارات داخل دائرة نشاطه الجهنمية.
نقلا عن الوطن