وجيه وهبه

 منذ نحو ثلاثين عامًا، وفى أحد البرامج الإذاعية، حكى المعمارى د.يحيى الزينى حكايته مع بناء مقر السفارة المصرية فى «طوكيو»، (فى ستينيات القرن الماضى، على ما أذكر).

بعد الحصول على موافقة كل الجهات المعنية فى «طوكيو» على مواصفات وتصميمات المبنى، بقيت خطوة واحدة، للبدء- ولم يكن من سلطة بلدية «طوكيو» البت فيهاـ ألا وهى لون المبنى. وطلب منه المسؤولون أن يحصل على موافقة جيران السفارة على لون المبنى.

 
ما حكاه الدكتور «الزينى» يُعبر عن قِدَم المدى الذى وصلت إليه الدول الحديثة فى إدراك أهمية دور ورأى المواطنين أعضاء المجتمع المحلى، فى أى تغير يحدث فى بيئتهم العمرانية.
 
ولكن، بالطبع هناك مجالات وسياقات أخرى لا تخضع فيها رؤية الحكومات بالضرورة، لرؤية أعضاء المجتمعات المحلية. فعلى سبيل المثال، قد تضطر الحكومات إلى إقامة منشآت أو مشروعات بنية أساسية، تعود بالفائدة على عموم البلاد، وإن تضرر منها أعضاء مجتمع محلى ما أو بعض الأفراد. فإذا كان الأمر كذلك، وجب على أولى الأمر فى هذا السياق، أن يلجأوا إلى حوار مجتمعى مع المتضررين ـ أيًا كان تصنيف ذلك المجتمع المحلى مناط تلك المشروعات، سواء أكان «عشوائيات» أو «أحياء متميزة»ـ، وإن لم يكن ذلك للحصول على موافقتهم ودعمهم لتلك المشروعات، فعلى الأقل، لتحييدهم ولتحاشى معارضتهم وتذمرهم وتبرمهم، وتبعات ذلك نفسيًا وعمليًا، من تربص وتحفز ضد كل ما يأتى من الحكومة سواء عن حق أم عن باطل.
 
المشاريع لا تُقر وتُقام وفقًا لدراسات جدوى اقتصادية فقط. بل يجب أن تُدرس أيضًا الآثار البيئية والنفسية/ الاجتماعية، بل والسياسية أحيانًا.
 
فى سالف العصر والأوان، زمن أفلام الأبيض والأسود، كان هناك فيلم، (بطولة نادية لطفى ورشدى أباظة)، اسمه «جريمة فى الحى الهادئ». والمقصود بالحى الهادئ الذى جرت فيه أحداث الفيلم هو «حى الزمالك». وتمر الأعوام، وتأتى المفارقة الدرامية، ويصبح الحى الذى كان هادئًا، حيًا من أصخب الأحياء، وذلك بما ارتُكب فيّه من مشروعات وأماكن تسرية وترفيه.
 
ولأن بعضنا مهووس بالتقليد الأعمى، ظهر مشروع العجلة الدوارة (عين القاهرة).. على بعد أمتار من «برج القاهرة»!!. وذلك تقليدًا للعجلة الدوارة فى لندن (عين لندن) وتوابعها فى بعض بلدان العالم. ولكن يا سادة، القاهرة ليست لندن فعدد سكان لندن، ـ وفقًا للإحصاءات ـ قد زاد فى آخر سبعين عامًا بنحو مليون نسمة فقط، بينما فى نفس الفترة زاد عدد سكان القاهرة الكبرى بمقدار يقرب من العشرين مليون نسمة!!. ومن المتوقع أن يصل عدد سكان القاهرة فى عام ٢٠٣٥ إلى ٣٠ مليون نسمة. أمن الحكمة وحُسن التخطيط، فى مدينة ينمو عدد سكانها هكذا، أن نضيف لقلبها المزدحم مشاريع مثل مشروع العجلة الدوارة (عين القاهرة) بما يستتبعه من ضغط على بنيتها الأساسية ومرافقها وانسياب الحركة المرورية فى شوارعها؟!!. تأنوا يا سادة.. ففى التأنى السلامة وفى «العجلة» الندامة.
 
قد يتفهم البعض أن مرور مترو الأنفاق بالزمالك هو مشروع قومى ضرورى. تُغلَّب فيه رؤية الدولة، لما تراه يصب فى الصالح العام لعموم الناس، على حساب تضرر سكان الزمالك. أقول قد يتفهم ذلك البعضـ ولست منهم ـ، ولكن من الصعب أن يتفهم أحد من ذوى المنطق السليم والغرض القويم، ضرورة مشروع «عين القاهرة» (العجلة الدوارة) فى جزيرة الزمالك. فهل يُعد مشروع «عين القاهرة» مشروعًا قوميًا هو الآخر؟.
 
لا يجب أن نسرف فى استعمال وصف «قومى» على أى مشروع. والبعض يلجأ إلى ذلك للترهيب ولإخراس الألسنة المعارضة لبعض المشروعات.
 
 مظلة الانتماء والمواطنة، يجب أن تتسع لتُظل كل شبر تحت سماء الوطن. وحقوق المواطن لا ترتبط بمكان ومستوى معيشته.. ولا تتناسب عكسيًا أو طرديًا مع مدى فقره أو غناه.
 
 القضية أبعد وأكبر من أن تكون خاصة بسكان حى ما، القضية. قضية حق المواطنين فى المشاركة فى صنع القرار، أى قرار، ولو على الأقل فى القضايا المتعلقة بمعيشتهم فى مجالهم الحيوى. «على سبيل المثال المشاركة فى اختيار أماكن وجود محلات الترفيه والملاهى والعجلات الدوارة والمراجيح». أشركوهم ولو على سبيل التدريب على الديمقراطية والإدارة المحلية واللامركزية المفقودة.
 
تطوير المدن، كما يكون أحيانا بالإضافة.. إضافة عناصر تنموية جديدة.. فإنه يكون أحيانًا، بالإحلال والتبديل، أو بالحفاظ على ما هو كائن فقط، أو أيضًا بالحذف (مثال؛ هدم مبنى الحزب الوطن بميدان التحرير).
 
لست من سكان حى الزمالك، ولكننى أرى أن شأن الحفاظ على كل بقعة جميلة على أرض مصر، هو من شأن كل المصريين، بغض النظر عن مكان إقامتهم، فهى جزء من ثروتهم وتراثهم الحضارى وذاكرتهم الجمعية. ومن هذا المنطلق يجب ان ندافع عما تبقى من هدوء وجمال منطقة الزمالك. فالزمالك «بتاعتنا كلنا» (إذا اضطررنا لاستخدام منطق «بتاعتنا» و«بتاعتهم»، الأعوج). وليتنح جانبا كل من لا يحسنون الدفاع عن قضايا «الزمالك»ـ وما أكثرها اليوم ـ فهم يجعلون الأمور تبدواـ زورًاـ وكأننا أمام جماعة تبحث عن «تمييز طبقى».
 
 
من الجانى؟.. بعض الأفعال والسلوكيات المُستنكرة، أو الغرائبيةـ وما أكثرها على مدار الساعةـ لا تُمثل جريمة وفقًا للقانون، وقد تستحق الوصف بـ «التفاهة» أو «السخافة» أو «الحماقة»، ولكن نقلها ونشرها وإذاعتها بأى «حجة» كانت، هو الجريمة المهنية والأخلاقية، ومرتكبو نشرها فى إعلامنا، هم حقًا الأشد تفاهة وسخافة وحماقة، من أصحاب الأفعال المستنكرة. لقد أصبح حجم التفاهة الإعلامية رهيبًا ومفزعًا.
نقلا عن المصرى اليوم