سليمان شفيق
أنا إن قدَّر الإلهُ مماتـي        لا ترى الشرقَ يرفعُ الرأسَ بعدي
ما رماني رامٍ وراحَ سليمًا                مــــــن قديـــــمٍ عنايــــــةُ الله جــندي

حينما نعى الناعي الدكتور رشدي سعيد طفا على سطح مخيلتي لقاء لي معه، طلبت “موبايله” يومها لتحديد موعد للقاء، سمعت نغمة من أغنية أم كلثوم السابقة التي كتب أبياتها شاعر النيل حافظ إبراهيم، اتفقنا، والتقينا أمام كوبري قصر النيل، سرنا سويًّا، سألته عن نغمة الموبايل، قال: «بعد أن حصلت على ماجستير الجيولوجيا من جامعة زيوريخ 1952 كانت مصر حبلى بالثورة، ولكن لا أحد كان يعرف متى الميلاد، وكان الإحباط سيد الموقف، وحينما غنت أم كلثوم هذه الرائعة (وقفَ الخلقُ ينظرون جميعًا كيف أبني قواعدَ المجدِ وحدي، وبناةُ الأهرامِ في سالفِ الدَّهرِ كفَوْني الكلامَ عند التحدِّي)»، ويكمل: «وكعاشق للجيولوجيا أدركت أن مصر الأهرام أكبر من الإحباط، وأنها لا تخضع للموت».

توقفت بجواره وتأملت تجاعيد وجهه.. يا إلهي، هذه الجبهة هي البحر المتوسط، وبين حاجبيه دلتا النهر، ذقنه منحنَى النيل عند نجع حمادي، ورقبته جنادل أسوان نحو عطبرة.

كانت أشعة الشمس تنعكس على وجهه ساعة الغروب، فتضفي على الجمجمة الفرعونية ألوانًا متعددة، وكأنها حجر كريم كشفت الأشعة عن خبيئته فتعددت ألوانه، فكلما زاد الضوء أعطى لونًا جديدًا..

الشعاع الأول: منارة الطفولة
ولد رشدي سعيد 1920 بالقللي، والقللي -لمن لا يعرفه- هو بداية شبرا، بجوار شارع جزيرة بدران، وكان النازحون من الصعيد يتدلون في مرسى روض الفرج، وينتشرون من دوران شبرا وحتى جزيرة بدران، في منحدر طبقي يبدأ بالأغنياء وينتهي بأفقر الفقراء في منطقة القللي (مركز صناعة الفخار والقلل)، قال لي الراحل الكريم إنه تم تعميده (سر العماد المسيحي) على يد القمص سرجيوس (خطيب ثورة 1919) بكنيسة الشهيد المحارب مارجرجس، وما بين الفخّار الذي عشق منه طين مصر، والقمص الثائر الذي لم ينعم عليه بسر العماد روحيًّا، بل عشق الفقراء والثورة اجتماعيًّا وسياسيًّا، وهكذا ترعرع الفتى ليتهجى حروف الوطنية من مقالات سرجيوس في مجلة المنارة.

الشعاع الثاني: راهب الصحراء
أنهى الفتى البكالوريا والتحق بكلية العلوم 1937 بجامعة فؤاد (القاهرة فيما بعد)، لم يكن حبر معاهدة 1936، التي وقعها النحاس باشا، قد جف حينما  قام الملك بإسقاط حكومته بالتحالف مع الإنجليز؛ لندخل في سلسلة من حكومات الأقليات (علي ماهر، محمد محمود، حسن صبري)، ومثلما كانت ثورة 1919 تغرب بعد وفاة سعد وانقسام الوفد، كانت مجلة المنارة تتوقف، وينقل سرجيوس من القللي إلى جزيرة بدران؛ لأن صراعات المجلس الملي العام بالكنيسة آلت لصالح إكليروس الأقليات أيضًا، وكما حدث في الوطن كذلك في الكنيسة؛ رحل الأنبا كيرلس الخامس، أبو الإصلاح وأبو الوطنية أيضًا، والذي نفاه الإنجليز بمعرفة الملك إلى دير المحرق، وتبوأ بعده سدة البطريركية البابا يؤانس التاسع عشر صديق السرايا والإنجليز.

 ويقول الدكتور رشدي سعيد في حوار مع الكاتب (مجلة المجتمع المدني أغسطس 1993): «كانت فترة الجامعة تعج بالتظاهرات الوطنية ضد حكومات الأقليات، وما كنا ننتهي من مظاهرات الجامعة حتى نلحق بالمظاهرات التي كانت تقوم بالبطرخانة القديمة بكلوت بيك؛ تأييدًا للمجلس الملي وللإصلاحيين بالكنيسة الذين كانوا من الوفديين».

ويضيف: «في مرحلة الدراسة الجامعية قادتني الجيولوجيا إلى الصحراء، زرت الأديرة، وجبت الصحراء شرقًا وغربًا، ونشأت بيني وبين الصخور والحفريات علاقة روحية».. هكذا صار محدثي راهبًا صحراويًّا من طراز جيولوجي.

الشعاع الثالث: جيولوجيا وجليد
تخرج رشدي سعيد 1941 بامتياز مع مرتبة الشرف، وكانت الحرب العالمية الثانية في أوج عنفوانها، وكما يقول: «فلم يكن أمام الجامعة سوى أن ترسلني إلى دولة محايدة»، ويضحك ملء شدقيه: «تصور.. أدرس الجيولوجيا في دولة بلا صحراء ولا صخور (جامعة زيوريخ بسويسرا)، عشقت النيل، ومن حيادها أدركت ماذا يعني شعار ناصر فيما بعد: “الحياد الإيجابي”»، ويضيف: «ومن أقصى الحياد لأقصى الانحياز لأكون أول مصري يحصل على الدكتوراة من هارفارد، لأعود إلى مصر مع انقلاب يوليو، الذي صار ثورة فيما بعد عندما انحاز ناصر للفقراء وليس نتيجة فعل ثوري. في هذه المرحلة عملت أستاذًا بجامعة القاهرة، وأدرت مؤسسة التعدين والأبحاث الجيولوجية (1968- 1977)، أذكر لناصر انحيازه للفقراء وعدم تعصبه ضد الأقباط، وكان ضباط يوليو لا يقدّرون الاختلاف الديني، حتى أن فتحي رضوان هو من رشح وزيرًا قبطيًّا وحيدًا لوزارة التموين هو فريد أنطون».

 وفي المرحلة الناصرية، وصولاً لمنتصف السبعينيات، عمل راحلنا بالعمل السياسي، فكان عضوًا بمجلس الأمة ونائبًا بالاتحاد البرلماني الدولي.

الشعاع الرابع: حلم العمر
مد بصره لمنتهى النيل، وفرك كفيه قائلاً: «عشت عمري كله أحلم بربط وادي النيل بشبكة محكمة تربط بين شمال الصحراء الغربية والبحر المتوسط من الشمال ومنخفض القطارة وواحة سيوة من الجنوب»، سألته: وما زلت تحلم بهذا؟ أجاب: «وسأظل أحلم بنهضة مصر وبارتقاء الإنسان المصري ما حييت، وحتى إذا انتقلت إلى حضن الآب السماوي، فهناك سأظل أكمل حلمي الذي وزعته بين كتبي ودراساتي: منخربات شمال البحر الأحمر 1949، مسح جيولوجي لمصر 1971، جيولوجيا مصر 1962، جيولوجيا ما تحت سطح منطقة القاهرة، التطور الجيولوجي لنهر النيل 1981، نهر النيل 1993، الحقيقة والوهم في الواقع المصري 1996، رحلة عمر 2000، العلم والسياسة في مصر»، شجعني العنوان الأخير على سؤاله عن علاقة المنجزات العلمية بالدولة والجامعة، قال: «أهم الإنجازات العلمية تمت بعيدًا عن الجامعة أو بعد الابتعاد عنها»!

الشعاع الخامس: تكريم الفقراء
سألته: هل نلت جائزة الدولة أو رُشحت لها؟ قال: «لا، ولكن ناصر كرمني 1962 بوسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، والجمعية الأمريكية لجيولوجيا البترول منحتني جائزة الريادة 2003»، وتدفقت ابتسامته رقراقة كمياه النيل وهو يقول: «ولكن أهم تكريم لي كان تكريمًا شعبياً من صديقك أحمد عبد الله رزة مع أطفال فقراء في مركز الجيل».

الشعاع السادس: إسرائيل والإخوان
«آه يا زمان الأسى.. على الفؤاد مرّيت
من بعد ما كنت حلو الطعم.. ليه مرّيت»
تمتم بالموال، وقال إنه سمعه من أحد العمال الذين صاحبوه في رحلاته في الصحراء، وأضاف: «كنت -ولا زلت- عاشقًا لثورة 1919 الليبرالية المصرية، ولكن ثورة 1919 انكسرت على يد إسماعيل صدقي بتحالفه مع الإخوان المسلمين»، واستطرد: «رغم ليبراليتي فإنني أحترم ناصر لمواقفه المنحازة للفقراء، لكن ثورة يوليو انتهت أيضًا على يد السادات لنفس السبب وتحالفه مع الإخوان المسلمين». توقف وأخرج زفيرًا قائلاً: «ولكن استمرار التطرف سببه زرع إسرائيل بالمنطقة مع ارتفاع معدل البطالة».

الشعاع السابع: المنفى الاضطراري
«كان السادات عندما يرسل لي تحياته أخاف! وبعد آخر تحياته، عشية اعتقالات 1981، نصحني صديق بالإسراع  بالسفر للخارج؛ لأن اسمي في قائمة الاعتقالات»، تنهد وابتلع ما تبقى من ذكريات وهو يقول: «بعد هذا العمر، لم يكن معي ثمن هجرتي الاضطرارية للولايات المتحدة فبعت مكتبتي العلمية»!

رأيت دموعه تفيض عذبة على وجنتيه، وتنحدر مثلما النيل من المنبع حتى المصب في البحر المتوسط.
انتهى اللقاء، وغردت أنفاس العمر إلى المنتهى، ولا زال النيل يجري، ومن الصحراء وإلى الصحراء نعود.

حينما نعاه الناعي، نظرت إلى صورته المعلقة على الحائط فوجدته في القرب وفي البعد جميلاً، بكيت قليلاً فارتحت قليلاً، تذكرت أمير الشعراء وهو يقول:

«الناسُ صنفانِ: موتى في حياتِهمُ.. وآخرونَ ببطنِ الأرضِ أحياءُ».