مصطفى محرم
استطاعت زميلتنا عايدة الشريف وكانت من الشخصيات التى تجيد الإلحاح فلا تتراجع إلا بعد أن تحصل على ما تريد فأذعن نجيب محفوظ أمامها وأخبرها برأيه فى رواية «العنقاء» التى كتبها لويس عوض بأنها رواية سيئة ومفتعلة. فسألته عايدة عما يقصد بأنها مفتعلة؟ فأخبرها بأنها مليئة بالصدف والأحداث التى يصعب تصديقها. وربما كان نجيب محفوظ محقًّا فى رأيه هذا. حقًّا كان لويس عوض واسع الثقافة فقد درس الأدب الإنجليزى فى كلية الآداب بجامعة القاهرة ثم سافر فى بعثة إلى جامعة كمبردج بإنجلترا وحصل على درجة الماجستير ودرجة الدكتوراه عن المسرحيات المأخوذة عن أسطورة «بروميثيوس» وأجاد اللغتين اللاتينية والفرنسية ولست على يقين من إجادته اللغة اليونانية القديمة. وأصبح من أهم النقاد المصريين ولكنه كان متواضع الموهبة فى كتابة الشعر وكتابة الرواية والمسرحية. وأذكر أننى قرأت له ديوان شعر بعنوان «بلوتو لاند» فلم يكن شعرًا ولا نثرًا، وقرأت له أيضًا مسرحية بعنوان «الراهب»؛ فوجدتها متواضعة المستوى. وربما كتب هذه الأعمال لإحساسه أو بمعنى آخر لإدراكه بثقافته الرفيعة.

ويبدو أنه لم يكن الوحيد بين أساتذة الأدب الإنجليزى فى مصر أو أساتذة اللغة العربية والفرنسية الذين كان لديهم هذا الإحساس، فقد حاول بعضهم كتابة الروايات وقرض الشعر وفقًا للقواعد الأدبية التى كانوا يقومون بتدريسها، ولكن للأسف كانت أعمالهم متواضعة فنيًّا لا حياة فيها. فقد يكون الفن والإبداع فى حاجة إلى الثقافة ولكن الإبداع يحتاج أولًا إلى الموهبة. وعلى سبيل المثال لم تكن ثقافة شكسبير واسعة مثل ثقافة معاصريه من الكتاب والشعراء، خاصة معاصره اللدود الشاعر المسرحى والناقد «بن جونسون»، ولكن الذى بقى حتى وقتنا هذا هو شكسبير، فى حين أن معاصريه قد طواهم النسيان، وقليل جدًّا من القراء من يعرفون «بن جونسون» الذى اعتاد أن يسخر من ثقافة شكسبير المتواضعة، ولكن شكسبير استطاع بثقافته المتواضعة أن يكتب «هاملت- ماكبث- لير- عطيل»، وغيرها، محطمًا من خلال هذه الأعمال كل القواعد التى كان يلتزم بها معاصروه، ودفع بالدراما إلى الأمام حتى أخرجها من نفقها الضيق وأصبح سيد كتاب المسرح.

كان نجيب محفوظ يختلف هو الآخر عن معاصريه من كتاب الرواية والقصة القصيرة فى مصر. وقد دفعه طموحه الأدبى فكان من خلال إجادته اللغتين الإنجليزية والفرنسية يقرأ كل جديد فى الأدب العالمى، خاصة روايات «تيار الوعى» التى ظهرت فى أوائل القرن العشرين؛ وذلك على يد الفرنسى إدوارد دو جاردان عندما كتب روايته «قطعت أشجار الغار». ويقال إن هذا المبدع هو الذى أوحى لجيمس جويس بفكرة رائعة «يوليسيز» وهى النموذج الأمثل لرواية تيار الوعى والتى رفض كل الناشرون فى إنجلترا طبعها ونشرها لما بها من ألفاظ جنسية صريحة فاضطر جويس لأن تقوم إحدى دور النشر فى فرنسا بنشرها مثلما حدث مع رواية «عشيق الليدى تشاترلى» التى كتبها العظيم د. هـ. لورانس.

يقول الدكتور محمود الربيعى فى مقدمة ترجمته لكتاب روبرت همفرى «تيار الوعى فى الرواية الحديثة» «جاء اتجاه تيار الوعى ليمثل الثورة الحقيقية فى تاريخ التطور الروائى. وهذا الاتجاه فى صورته الناضجة هو بالطبع من نتاج القرن العشرين. ومن الواضح أن روبرت همفرى يرى ذلك فهو لا يتناول بالتحليل المستقصى سوى النماذج المعروفة فى هذا الاتجاه والتى تنتمى إلى هذا القرن ولا يكاد يعطى أهمية تذكر للأصول التاريخية لهذا الاتجاه».

ومن أعلام هذا الاتجاه جيمس جويس صاحب النموذج الأمثل لهذا النوع من الروايات وهى رواية «يوليسيز» التى يقال إنه استغرق فى كتابتها ما يقرب من العشرين عامًا. وفرجينيا وولف التى كتبت عدة روايات فى هذا الاتجاه مثل: حجرة يعقوب - مسز دا لوكا - إلى المنارة - الأمواج - السنين. وهى ترى أن الكاتب الإنجليزى لورنس ستيرن الذى كتب فى أواخر القرن الثامن عشر رواية بعنوان «ترستام شاندى» هو رائد من رواد هذا النوع من الروايات وأنه يهتم «بالصمت» أكثر مما يهتم بالكلام وذلك لأنه كان يترك بعض الصفحات فى روايته خالية من أى كلمة. وهناك دو روثما ريتشارد سون وهى روائية إنجليزية كتبت فى هذا النوع رواية من اثنى عشر جزءًا بعنوان «الحج» حيث حاولت الكشف عن بعض خفايا الحياة النفسية كما يقول روبرت همفرى وتصوير هذه الحياة باعتبارها واقعة فى منطقة من الممكن على أساسها أن نقوم بتفسير شىء من الواقع الخارجى إلا أنها للأسف لم تفعل ذلك ولم تبحث فى عالم الوعى بعمق بما فيه الكفاية رغم أنها هى التى اخترعت أصلًا التصوير القصصى لفيضان الوعى وكانت فى ذلك مدينة بشدة لهنرى جيمس وجوزيف كونراد. وهى تتصف بأنها لماحة أحيانًا، وحساسة دائمًا فيما يتصل بأنواع العمق التى تتصف بأنها الوظائف الذهنية، لكنها أخيرًا تصبح غارقة فى الفيضان.. الفيضان النهائى الذى لا يستمد قالبه من التفاصيل النهائية».

هناك أيضًا من أعلام هذا الاتجاه الكاتب الأمريكى الشهير وليم فولكز الذى تدور رواياته فى بلدة صغيرة وحول أفراد أسرة واحدة وهى أسرة ساركوريس التى تمثل الجنوب القديم فى أمريكا، وأشهر أعماله رواية «الصخب والعنف» ورواية «عندما أرقد من أجل الموت» ورواية «أبسالوم، أبسالوم» ورواية «النحلات البرية»، ومن الأعلام أيضًا نجيب محفوظ بعد أن تخلص من الشكل التقليدى الواقعى وكتب رواية أو بمعنى أكثر دقة رواية من روايات تيار الوعى، وهى رواية «اللص والكلاب»، وللحديث بقية.
نقلا عن المصرى اليوم