د. مينا ملاك عازر
توقفنا في المقال الأول من سلسلة مقالاتنا المزمع تقديمها حول مغامرات نيلز العجيبة عند وعد لك إذا ما تابعتني صديقي القارئ بتلخيص الحكاية بشكل أتعمد أن لا يكون مخل لأتركك تستمتع مثلي بقراءة الرواية، ووعدتك أيضاً بسرد المزيد من المعلومات عن الكتاب والكاتبة السويدية. 
 
حكاية نيلز هولغيرسون، حكاية بسيطة، لكن المنحى الذي تسير فيه ينطوي على لمحات عبقرية، ومقارباتها للنمط الحكائي الأسطوري جعلها فائقة للحدود العادية، فالحكاية الإطارية تتمثل بالفتى نيلز الذي لم يبلغ من العمر سوى أربعة عشر عاماً، غير أنه يتمتع بخيال خلاق وطاقة غير مستنفدة بأي فعل نافع، وقبل أن يتحول إلى أمثولة أخلاقية، كان ولداً شريراً، يؤذي كل الكائنات التي تحيط به، ويعتدي على كل من يراه من أطفال الجيران، ولا يسلم منه حتى صغار الحيوانات، وبالرغم من محاولات والديه الفلاحين الطيبين إصلاحه إلا أن مصير جهودهما كان هو الفشل دائماً، حتى يلتقي صدفة بقزم يتمتع بقوى سحرية خارقة، فيحاول نيلز بطريقته المتعجرفة والغليظة إيذاءه والسخرية منه، فيغضب القزم منه، ويمسخه إلى قزم مثله، هكذا يجد نيلز نفسه في حقل آل هولغيرسون قزماً إلى جانبه إوزة تتطلع دائماً إلى اسراب الطيور المهاجرة، فتشعر بالحسد والغيرة للحرية التي تتمتع بها هذه الطيور وقدرتها على التحليق والذهاب إلى عوالم أخرى، بينما هي حبيسة هذا المكان وحده، ويحدث في تلك اللحظة أن يمر سرب من هذه الطيور الضارية عابراً السماء، راحلاً إلى جهة من جهات الأرض المجهولة، فتنطلق الإوزة لاحقة به، وقد تعلق برقبتها الفتى نيلز القزم، كان مرتعباً أول الأمر من هذه التجربة الجوية برفقة كل هذه الطيور المهاجرة، ثم يتحول إلى مراقب وراصد لكل ما يصادفه من أشخاص أو أراضٍ أو أشجار أو أنهار أو نباتات، فراح يتعلم من الحياة ومن الأحداث التي تمر به، ليصنع في النهاية دروساً أخلاقية، ومعاني إنسانية، تحوله من فتى شرير يؤذي كل من حوله إلى فتى مفعم بالإنسانية، مخلص في العمل، يقدم المساعدة لمن يحتاجها، ومشهود له بحب الآخرين.
 
 إن تفسير لاغرلوف Lagerlöf  لهذه المهمة التعليمية المملة، هو الذي كسر حدود النموذج التقليدي، فقدمت عملاً نادراً لا على مستوى الحكاية فقط إنما على مستوى اللغة التي وسعت حدود استخدامها بالأساليب العامية والمفردات اليومية، وشحنتها بطاقة شعرية واسعة الثراء، ومدتها بأسس أخلاقية قوية وسليمة تسمح لروح الطفولة الشقية أن تتجول ولتغدو عبر التجارب القاسية.
 
إن براعة سلمى لاغرلوف في هذا الكتاب، من وجهة نظري، تكمن في تقديمها لرائعة أدبية حديثة مبنية على طريقة الحكايات الفلكلورية التي ينتجها عادة العقل الجمعي للشعوب، والذي يتطور وينسج على مر التاريخ، حتى يصعب عليك أن تميز هذا الكتاب من أية قطعة فلكلورية، بل أصبح هذا الكتاب على غرار الكتب الفلكلورية الأوروبية حكاية شعب ووطن وأمثولة علمية وأخلاقية وإنسانية في الوقت نفسه، بل أصبح الكتاب السويدي الذي يُقرأ أكثر من أي كتاب آخر في هذا البلد الاسكندنافي، كما أنه الكتاب الذي قُلّد أكثر من أي كتاب آخر في الأدب الحكائي الموجّه للصغار.
 
مرة أخرى، اسمح لي صديقي القارئ، بالتوقف هنا على أن اجدد إذا ما استمرت متابعتك لي في المقال القادم، بأن أعرض المزيد وأوضح لسيادتك عبقرية هذا الكتاب التي لا تتوقف عند فكرة كونه رواية أدبية خيالية لكنه يفعل أشياء أخرى ستعرفها المقال القادم وربما ستعرف معي المزيد عن الكتاب والكاتبة فتابعني.
 
المختصر المفيد الأطفال هم المستقبل فهل خاطبتموهم كما فعلوا!؟.