قصة قصيرة بقلم : روماني صبري 

رغم أننا في وقت السلم، وليس ثمة أي معارك ضارية، إلا أن هناك شابا في مدينتنا لايزال في حرب لم يختارها بمحض إرادته، شابا يدعى يوسف، بات يشبه البركان النشط الذي يقذف صخورا مصهورة، وهو لا يريد إيذاء إلا من يحتقرون أسلوب حياته وتفكيره و بلسانه، بالحق الحياة هنا لم تعد تطاق، وبطل قصتنا يدرك أسباب ذلك، نعم يتفهم الأسباب جيدا، لذلك لا يقف متعجبا، اليوم تأبطت البرودة القاسية جسده الضخم وكان في محل عمله، بدت الأمطار وكأنها تكره البشر كما كرهه الأستاذ محفوظ مدير الشركة، لكنه لا يكره الشتاء كما الفقراء، يستجمع قواه في كل موسم ويدعو لهم في خجل حتى ترحمهم السماء.

 

 ولما لا يفعل ذلك فهو لم ينسى بائع الأجهزة الكهربائية المستعملة الذي افترش بضاعته في سوق الجمعة، ثم أخذ يلطم ويولول بعدما خرب معظمها جراء موجة الأمطار الشديدة غير المسبوقة التي جاءت على حين فجاءه، فكل بائع انشغل بإنقاذ بضاعته، وهذا طبيعيا ومألوفا فكل إنسان يبحث عن مصلحته ولا وقت في مثل هذه المواقف لبطولات شخصية، كذلك هو لم ينزل من سيارته وذهب للعمل، لكن في الحقيقة نزل به اكتئاب حاد، لكنه تجاوزه بمرور الأيام، سجل في مذاكراته حينذاك :

 

 الأجواء كانت حزينة والنساء أخذن يصرخن اغلبهن كذلك الرجال على بضاعتهم، أما بائع الكتب القديمة، فراح يقول غير مبالي وهو يدخن سيجارته ويبصق البلغم على الوحل :" لم تبصر عيناي مثل هذه الأمطار الشديدة من قبل، وعلى أي حال لن انظر للسماء طلبا للحماية، حيث كتب الله التجربة على الجميع،  وفي داهية البضاعة، في داهية كل حاجة، لطالما اعتدت على الخسارة، زوجتي وماتت وتركت لي 3 أبناء، وأقول انه على كل أب في الدنيا أن يوفر لأبنائه الطعام والشراب والحنان، حسنا لنذهب للعمل ثانية في مصنع النسيج المستطيل القذر هذه الفترة، حتى ادخر بعض المال لشراء الكتب، ولأصلي كثيرا حتى يرحم الله أذناي من تداعيات ضجيج الماكينات، وتابع :" لماذا لم تخلقني غنيا يا الله؟!، لماذا لما أولد وفي فمي ملعقة ذهب كما كثيرون ؟!." 

 

ها هو يوسف يتمشى وحيدا في الشارع مستمتعا بعدما طرده محفوظ من الشركة، نعم سعيدا كذلك بالأمطار، ويصفع الوحل بحذائه ليرفه عن نفسه وهو في طريقه للمنزل، والمرء يحب الأشياء التي تسعده فيراها مهمة فيوليها اهتماما، حتى وان سببت الكوارث للآخرين كالأمطار، بات كل شيء في عيناه ساحرا، وشعر بقوة لا مثيل لها، جعلته يقول في نفسه مازحا : استطيع الآن تدمير كل شيء في الدنيا، ها أنا تمكنت من الوغد محفوظ، مرت دقائق ولا زال يتمشى، ثم أبصر بركة مياه بفضل الأمطار، ودون تفكير اقترب منها ثم انحنى، وراح يتناول المياه بيده ليشرب كما كان يفعل في طفولته، وواجه مقابل هذا الفعل غمز ولمز بعض المارة.

 

 نهض وراح يصفع  الوحل مجددا، وصفع الوحل ليس خطيئة، إلا إذا ناقش رجال الدين المتعصبين الأمر وحولوه لقضية، ثم عاد يقول في نفسه:" الأمطار متواصلة وغزيرة منذ ساعات، ليكن الله مع الفقراء الذين لا مأوى لهم إلا الشارع وخراباته، وبالطبع في حال كان أبصر الأستاذ محفوظ احد الفقراء الآن لسرعان ما كان مد يده في جيبه ليكب عليه من عطفه وحنانه، نعم سيفعل فهو يحب الإحسان طمعا في الجنة، ما يؤكد انه إنسان طيب صافي النفس، وليس إثم في ذلك أليست الحياة هات وخد؟!، لكن الحقير سرحني من العمل، بالحق فعل، نعم فعل ما يزيد أعداد ضحاياه، وأنا من أجبرته على قراره بمحض إرادتي، متى يعرفه مرضا لعينا لينتهي به الأمر داخل قبر.

   

في اليوم ذاته وبعدما عاد من عمله فتح باب شقته ثم دخل ورد الباب، وقتها عانى الوحدة، فتذكر انه لم يعد يرتب غرفته، وكان يرتبها بعد موت والدته والتي لحقت بابيه مؤخرا، استفحلت البرودة في الغرفة بعنف، لكنه لا يبالي وقرر النوم ورائحة الأمطار تنبعث من ملابسه، وهو من فتح النافذة بمحض إرادته، كما كان يفعل في الصغر ليستقبل برد الشتاء الممتع، وهو لا ينتظر عودة الصيف حتى تتأبط أشعة الشمس الشوارع التي يقصدها، فعندما تشتد الحرارة يأخذ يدخن التبغ ويلعن ويهذي حتى وصل الأمر انه قال في مرة :" الشمس تضربنا بحرارتها ولا تبالي، أنا في عرضك خفي علينا، دعينا نتصدر الواجهة ونصيب شهرة، فانا أن فعلت لأثلجت الصدور الضائعة، ويكون ذلك وسط أجواء احتفالية تزخر بزغاريد النسوان، آه ما أجمل ذلك، ولنقر قانون يكرس الفرحة، ويتماشى مع قيم المجتمع المتدين الذي نعيش فيه !.

 

الفقراء ويكرهون الشتاء، لذلك يتساءل هذا المستور عما إذا كان ذلك سيزيد الشرخ بينهما، ولم يشعر الأستاذ محفوظ مدير الشركة بالحرج منه، عندما طرده من العمل، وكان باب مكتبه مواربا، كنظرات يوسف له والتي عكست احتقارا عظيما له، نعم لا شك في ذلك، فمحفوظ الذي يكنس شارعه يوميا ليظل نظيفا عالي الكفاءة يجعل القلب يطوقه السلام، وحتى يكون قدوة حسنة للجيل الجديد من جيرانه، لم يتمسك بيوسف وهو موظف كفؤ، والسبب ان يوسف كشف له حين تبادلا أطراف الحديث على خلفية القبض على فتاة كونها قامت بجلسة تصوير بمنطقة أثرية ارتدت خلالها ملابس فرعونية قصيرة، بأنه يناهض التنكيل بالآخرين والتدخل في حياتهم الخاصة، وتابع :" على الأغلب من يبلغ عنهم يريد التكيف مع قذارته.

رد عليه محفوظ :" أنت تراني متعصبا إذا؟

-نعم بالحق قلت     

-هل تأخرت الشركة  في دفع راتبك يا جبان من قبل، قالها مازحا، وتابع :"ها قد نجحت في تحديد هويتك، أنت ديوث ياولد 

-لا بل أنت سيدي ولتعلم انك تغير الموضوع ، وتعجيلك بفصلي سيجعل الأمر جميل جدا .

 

استيقظ محفوظ العجوز من نوم عميق في اليوم ذاته، دون سابق إنذار، فلا كابوس أو سعال هذه المرة، وسرعان ما مد يده في جيب بنطال بذلته الشيك واخرج علبه سجائره، تناول واحدة وأشعلها وراح يدخنها بلذة، ثم مضى صوب الصالة بخيبة أمل وبحركة أقدام ثقيلة وهو يدمدم :" غلبني النوم حتى نمت ببذلتي، وربما أيقظني غضب نزل بي أو لإدراكي بأنني شخص متناقض، آه من هذا الجيل العنيد، الوغد يوسف لسرعان ما رد لي الإهانة، وعلى ما يبدو انه سيخبر زملاءه في العمل انه وصفني بالديوث، سيقول ذلك بنبرة سعيدة، ولما لا فالإنسان يحب الانتقام حفاظا على كرامته، فيستخدم لسانه كثيرا بدلا من البندقية، فيبقى في أمان، واعتقد ان كثيرون يوفقونني هذا الرأي، وعلى أي حال اعلم كل العلم ان غالبية الموظفون يسبوني ويلعنوني بين أنفسهم، كوني انتقدهم كثيرا جراء الكيفية التي يعيشون بها حياتهم، أنا الرجل الذي يبصرون فيه القول المأثور "دقة قديمة." 

 

وقبل أن يصل العجوز الصالة، اقترب منه حفيده، وليد طفل تجاوز العشر سنوات، ولسرعان ما احتضن بيديه الصغيرتان قدمي جده، فحمله الأخير بهدوء دون أن يلتفت إليهما احد، ومضى به صوب غرفته، وهو يهمس في أذنه :" هل قالت جدتك أي شيء عني لامك، فرد :" قالت انك نمت دون أن تغير بذلتك، ما يعني انك تواجه مشكلة في العمل، وقالت أيضا أنها ستعرف منك كل شيء بعدما تنتهي زيارتنا، واجه العجوز حديث الصبي بابتسامة لا مثيل لها، عكست طيبة وحنان شديدان، فراح يقول للصبي حين وصلا الغرفة وأجلسه على السرير، بينما وقف هو كمعلم المدرسة:" أنت ذكي كأمك ولما لا تكون كذلك، فأمك ابنتي، رغم أنها تبغض تعصبي وتشددي." 

 

على حين فجأة تحسس العجوز أذنيه، وقال مختصا الصغير الذي ظهر مصغيا لجده بهز رأسه، أصبحتا طويلتين بعض الشيء، في الحقيقة كان لي أذنان صغيرتان، لطالما جذبتا الفتيات إلي، وفي حال كنت افتقد الإيمان لكنت مارست الزنا قبل الزواج ... صغيري الجميل أنا أتباهى بأخلاقي، وهو ما يعتبره صديقي المقرب حازم نفاقا واستبداد بالآخرين، لكنني أسامحه، ومرد ذلك إلى انه عشرة عمر، وهو أيضا يحبني من قلبه، قلت له مؤخرا :" حسنا اللعنة على الشيخوخة كما تقول يا صديقي، حيث جعلتني ضعيف جنسيا، وفي حال كنت ضعيف الإيمان مثلك لقلت فلتحل لعنة الله على كل شيء هنا، آه متى أحببت هذه الكيفية، هل أعادها الرئيس الراحل السادات إلى الواجهة حين وصف نفسه بالرئيس المؤمن ؟!، فنحن أبناء هذا الجيل، ومتى قررت تغيير تسريحة شعري الذي عرفه الذبول والتساقط؟، وعلى ما يبدو يا صغيري، إننا نستبدل بأشخاص آخرون في كل فئة عمرية، هذه هي الحقيقة وان كنت أجدف لصدقت تجديفي، ولما لا، طالما يشعرني ذلك بالراحة، هههههه انظر ها أنا اكرر كلام حازم هذا الوغد الذي أحبه، ما يعكس تناقض شديد داخلي. 

 

وتابع مختصا حفيده، لطالما تأنق جدك العجوز في شبابه، وأفرط في تأنقه بعد الزواج، توقف عن الكلام هنيهة، ثم قال :" موظف شاب اسمه يوسف سرحته اليوم من العمل، وضميري يؤلمني جراء ذلك، هو جريء وشجاع، والدليل على ذلك انه منذ أسبوع رصد لزملائه ما اسماه كوارث السادات كونه أفرج عن جماعات الإسلام السياسي ونشرها في المجتمع، ولكنك يا صغيري لا تبالي، وهذا طبيعيا ومألوفا، حسنا لأتابع ، وعلمت ذلك من "العصافير"، فقاطعه الصغير :" وهل تتحدث العصافير يا جدي، رد عليه ضاحكا:" نطلق على البشر الذين ينقلون  الحديث داخل الغرف المغلقة عصافير، وقد تجد من بينهم عمال نظافة وسعاة وموظفون من داخل المكتب نفسه، ويقومون بذلك طمعا في المزيد من المال، إذا هم لا يحبون جدك بل يحبون المال، ولذلك قال حازم لي ونحن نوزع البطاطين على الفقراء في موسم الشتاء الماضي : اللعنة على الفقر والحروب. 

 

وتابع يا صغيري يقول :" طالما الحياة ملعونة والخسارة ستعرفنا، لنرفع الصلاة إذا لجميع الناس وفي مقدمتهم من يكرهوننا، وكل شيء معلوم لدى الله، حقا ستكون صلاة تقشعر الأبدان، لا شك في ذلك، وليطلقن النساء الزغاريد ولتتحس أصابعهن خدود البؤساء الفقراء منهم والأغنياء، لتخفيف الضغط والمعاناة، أنا عجوز بات صوتي مثلك يا محفوظ، متى أخرجت محفظتي كثيرا لأطعم الفقراء كما تفعل، حقا لكم كنت بخيلا، والبخل يأتي بالدمامة والقسوة، نعم يجعل الإنسان حقيرا، ينقبض صدر من يبصره لاسيما المقربون الذين يعيشون معه تحت سقف واحد، ويكون ذلك الجحيم بالنسبة لهم، لهذا تخليت عن البخل اقتداء بك، ومن قال أن نرجسية الإنسان أكثر قذارة من المرض ؟.

 

المجتمع يعاني تدهورا في الأخلاق، هكذا أرى، والكارثة هو الجهر به من قبل الشباب، وجدك يشاهد مقاطع الرقص الشرقي على هاتفه بعيدا عن الأنظار عدا التدخين، وأقول لمن يعرفني انه خطيئتي الوحيدة، ها أنا افضح نفسي أمامك يا صغيري، في الحقيقة لم تكن حياتي سعيدة، والدليل أن رجل في مثل عمري كاد شاب نقيا يبصق في وجهه، كونه يكن لي الكراهية وبالطبع أنا السبب في ذلك، وهل ستجعلني الواقعة أغير من الكيفية التي أعيش بها حياتي أم لا، في الحقيقة لست اعلم، لكن ما حدث لي يجثم على صدري.

 

 ذات يوما قال لي يوسف أن كل إنسان وجب أن تكون له شخصيته المستقلة وحياة يختارها لنفسه ولا يتدخل فيها الآخرين، فما شأننا نحن بحياتك الخاصة، إن كنت تدخن أو لا!، وكان يجب أن يكون تأثير الطبيعة عليك كبير سيادة مدير الشركة، كونك تتصدق على الفقراء، وبشكل اكبر في فصل الشتاء، ولتدري ان الطبيعة كالكتب تجمل الحياة رغم قسوتها، وتجعلنا كذلك نحكم على الحياة ونفهمها... سمعته ذات يوما يقول لأحد زملائه انه اعتاد الشرب من مياه المطر وتوقف عن ذلك في مرحلة التعليم الثانوي تجنيا لسخرية المارة، ولكني اقسم لك بالله يا حفيدي بأننا سنقصد الشارع حالا، ونشرب اقتداء بيوسف من مياه الأمطار، نعم بتلك اليدين اللتان تأبطتهما مظاهر الشيخوخة سأغرف لنا المياه لنشرب ونشرب."