سمير عليش
لقد كان الغطاس عيداً قومياً، تحتفل به مصر احتفالاً رسمياً، شعبياً، شائقاً بلغ حده أن حاكم مصر نفسه ورجال حكومته وأُسرته ومعاونيه.. كانوا يشتركون فيه، ويأمرون بإقامة الزينة، وإيقاد النيران، وإضاءة المشاعل، وتعميم الأفراح الشعبية فى كل مكان، وتوزيع المأكولات على الأهالى، مع الصدقات على الفقراء. وكان الناس يغطسون فى النيل تبركاً بهذه المناسبة السعيدة .

ويروي المقريزي عن عيد الغطاس فيقول:
إنه يُعمل بمصر فى اليوم الحادى عشر من شهر طوبة، وأصله عند النصارى إن يحيى بن زكريا عليه السلام ، المعروف عندهم بيوحنا المعمدان عمد المسيح، أى غسّله فى بحيرة الأردن، وعندما خرج المسيح عليه السلام من الماء، اتصل به الروح القدس، فصار النصارى لذلك يغمسون أولادهم فى الماء فى هذا اليوم وينزلون فيه بأجمعهم، ولا يكون ذلك إلا فى شدة البرد، ويسمّونه يوم الغطاس، وكان له بمصر موسم عظيم إلى الغاية.

عيد الغطاس فى العصر الأحشيدي
عاشت مصر تحت حكم الرومان، ما يقرب من سبعة قرون، ثم تولى من بعدهم الأتراك، فحكموها حوالى أربعة قرون، فلما تولى الأخشيديينالحكم، كان لليلة الغطاس شأن عظيم، وكان الناس- مسلمون ومسيحيون- لا ينامون فى هذه الليلة .

وقد حضر/المسعودى سنة (330 هـ) ليلة الغطاس بمصر، والأخشيد محمد بن طفج أمير مصر فى قصره، فى جزيرة منيل الروضة، وقد أمر بإقامة الزينة فى ليلة الغطاس أمام قصره، من جهته الشرقية المطلة على النيل، وأوقد ألف مشعل، غير ما أوقد أهل مصر من المشاعل والشموع على جانبى فرع النيل..

وقد حضر في تلك الليلة آلاف البشر من المسلمين والمسيحيين، ومنهم من احتفلوا في الزوارق السابحة في النيل، ومنهم من جعلوا حفلاتهم في البيوت المشرفة على النيل، ومنهم من أقاموا الصواويين على الشواطيء، مظهرين ما لا يُحصى من المآكل والمشارب والملابس وآلات الذهب والفضة والجواهر.. وكانوا يقضون ليلتهم فى اللهو والعزف على آلات الطرب، والتحلى بالجواهر الثمينة والزينة..

وبشهادة المسعودى كانت ليلة الغطاس فى مصر أيام الفاطميين والأخشيديين، أحسن الليالى بمصر وأشملها سروراً ولا تُغلق البوابات التى كانت مركّبة على أفواه الدروب والحارات، بل تبقى إلى الصباح، ويغطس أكثر الناس فى نهر النيل، مزعمين أن ذلك أمان لهم من الأمراض، ومناعة

عيد الغطاس فى العصر الفاطمى
بعد الأخشيديين آل حكم مصر إلى الخلفاء معهم من عاصمة مُلكهم الأصلى، ودفنوها فى تربة الزعفران حيث خان الخليلى الآن. وتُعد الدولة الفاطمية هى الدولة الوحيدة، التى أتت بأموالها إلى مصر، خلافاً لغيرها من الدول الفاتحة، فإنها كانت تنهب خيرات مصر وكنوزها إلى بلادها.
وفى مصر بنوا القاهرة والأزهر وما يحتفل به المسلمون من الأعياد الدينية، متمثلة فى عاشوراء وطبقه الشهير، والمولد النبوى، وما يُصاحب الاحتفال به من الحلوى الحمراء خاصة العروسة التى ترمز إلى مصر والحصان الذى يُجسّد الفروسية، وليلة الإسراء والمعراج وما تزدان به من اللبن والبلح، ورؤية هلال رمضان والفوانيس والعيد...

هذه الاحتفالات كلها تعود إلى العصر ولم يكتفِِ الفاطميون بما أتوا به من خيرات إلى مصر بل عطفوا على كل المصريين على اختلاف مذاهبهم ومنهم الأقباط، فقربوهم إليهم، وجعلوا أعيادهم أعياد رسمية فى البلاد، اشترك فيها الخلفاء أنفسهم كلنيروز والميلاد والغطاس وخميس العهد.. وكانوا يُخرجون من خزائنهم العطايا، ويوزعونها على رجال الدولة، لا فرق بين مسلم ومسيحى!

فكان إذا جاء عيد اغطاس يوزعون على الموظفين: الليمون، والقصب، والسمك البورى.. وكان ذلك برسوم مقررة لكل شخص، وإذا رأينا إقبال الناس على مص القصب فى هذه الليلة، واعتباره من عادات ورموز العيد فنذكّرهم بأن هذه العادة القديمة أدخلها الفاطميين فى رسوم دولتهم.

وكانت الخيام تُنصب على الشواطئ ، ويأتى الخليفة ومعه أُسرته، من قصره بالقاهرة إلى مصر القديمة، وتوقد المشاعل فى البر والبحر، وتظهر أشعتها وقد اخترقت كبد السماء لكى تزينها بالأنوار البهية، ثم تُنصب الآسرة لرؤساء النصارى على شاطئ النيل فى خيامهم، وتوقد المشاعل، ويجلس الرئيس مع أهله، وبين يديه المغنون ثم ;يأتى الكهنة والرهبان وبأيديهم الصلبان، ويقيمون قداساً طويلاً ربما (قداس اللقان).

ويذكر المسبّحى فى تاريخه من حوادث (998 م ): كان الغطاس فضُربت الخيام والسرادق والآسرة، فى عدة مواضع على شاطئ النيل، ونُصبت آسرة للرئيس فهد النصرانى وأُوقدت له الشموع والمشاعل، وحضر المغنون، وجلس مع أهله يشرب إلى أن كان وقت الغطاس، فغطس وانصرف.

وقال فى حوادث سنة (1025م) : وفى ليلة الأربعاء 4 ذى القعدة سنة (415هـ)، كان غطاس النصارى، فجرى الرسم من الناس شراء الفواكه والضأن وغيره... ونزل أمير المؤمنين الظاهر لاعزاز إلى قصر جده العزيز بالله فى مصر، لنظر الغطاس ومعه الحرم ونودى أن لا يختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم البحر وضُربت خيمة عند الجسر وجلس فيها، وأمر أميرالمؤمنين بأن توقد النار والمشاعل فى الليل، وكانت أنواراً كثيرة، وحضر الرهبان والقسوس بالصلبان والنيران، فصلوا على مياه نهر النيل وباركوها، ثم نادى المنادى فغطس الناس وتفرقوا، وكان عيداً عظيماً..

وذكر بن إياس:
إن نهر النيل كان يمتلئ بالمراكب والزوارق، ويجتمع فيها السواد الأعظم .. من المسلمين والنصارى، فإذا دخل الليل تُزين المراكب بالقناديل، وتُشعل فيها الشموع، وكذلك على جانب الشواطئ يُشعل أكثر من ألفى مشعل وألف فانوس، وينزل رؤساء القبط فى المراكب، ولا يُغلق فى تلك الليلة دكان ولا درب ولا سوق، ويغطسون بعد العشاء فى بحر النيل، النصارى مع المسلمين سوياً، ويزعمون أن من يغطس فى تلك الليلة يأمن من الضعف فى تلك السنة.
وهكذا استمرت الاحتفالات بعيد الغطاس أجيالاً، وقد سُجلت فى كتب التاريخ، بأيدى مؤرخين ثقاة مسلمين وأقباط، كمظهر من المظاهر القومية فى مصر، ولكن مع مزيد من الأسف، لقد أثرت روح العصر التى يغلب عليها التمدين، على تقاليدنا وها هى تسعى لتمحوها!!