بقلم : د. منى حلمى

أكتب مقالى هذا الجمعة ١٥ يناير ٢٠٢١، وفى نيتى أن تتجمل سطورى عنها فى يوم رحيلها ١٧ يناير ٢٠١٥، والصدفة التى أدهشتنى أن يكون ١٥ يناير ١٩٤٠ هو تاريخ عرض أول أفلامها فى السينما المصرية، وكان عمرها سبع سنوات، وهو فيلم «يوم سعيد» من إخراج محمد كريم.

١٥ يناير ١٩٤٠ كان بالتأكيد يومًا سعيدًا للطفلة الصغيرة «فاتن حمامة» ولأسرتها، ولكنه كان أيضًا يومًا سعيدًا للسينما المصرية التى كانت فى بداياتها تبحث عن صنع تاريخها وأمجادها وتفردها.
 
وُلدت فاتن فى ٢٧ مايو ١٩٣١، ورحلت فى ١٧ يناير ٢٠١٥، وما بين التاريخين صنعت لنا فنًا راقيًا لن يرحل ولن يخفت تأثيره عبر الأزمنة، مَنْ كان يصدق أن تلك الطفلة النحيلة هى دسم الموهبة الذى ينقص الفن السابع لكى يصبح وجبة صحية مغذية للعقل والقلب؟، مَنْ كان يصدق أن المخرج محمد كريم قد قام بتعديل سيناريو فيلم «يوم سعيد»، هو وعبدالوارث عسر، ليضيفا مشاهد أخرى تظهر فيها فاتن؟ وهكذا جاء مشهد عبدالوهاب وهو يغنى فى حضورها الفاتن أغنية «طول عمرى عايش لوحدى» ويحملها وكأنه يريد تقديمها للدنيا كلها.
 
أجمل احتفاء بها فى ذكرى رحيلها السادسة أن تكون أوصافها من السيرة الذاتية لأفلامها التى ستصنع لها الخلود وتضمن لها التكريم اللائق بها.
 
فاتن هى باختصار لا يفيها حقها: «سيدة القصر» و«سيدة الشاشة»، كانت لفريد «حكاية العمر كله» وكانت لنا «حكاية السينما كلها»، من أجلها تدفق «نهر الحب» وانطلق فى السماء «دعاء الكروان»، علّمتنا «الخيط الرفيع» بين «الزوجة العذراء» و«الحرام»، أحبت رغم أنه «لا وقت للحب».
 
غنى لها عبدالحليم «حلو وكداب» رغم أنها كانت فى شدة الصدق، أبقت قامتها ثابتة شامخة رغم «الطريق المسدود»، نسألها كيف يسبب الحب الألم؟ فترد عيناها فى صمت «سلوا قلبى»، من أجلها يغير «عمر الشريف» اسمه وديانته ومسار حياته.
 
يتراجع عنها المرض لأنها دائمًا على «موعد مع الحياة»، لم تشك يومًا أن «موعدها مع السعادة» هو حين تغفر وتسامح، جريمة «المنزل رقم ١٣» تدين حبيبها لكنها تصدقه حين يقول إنه برىء، لكل النساء المنبوذات حفرت بعذابها «طريق الأمل».
 
فى «اليتيمتين» فقدت البصر وفقدت أختها ولم تفقد إيمانها بعدالة القدر، أعطت للتضحية معنى أكثر نبلًا فى «الليلة الأخيرة»، بعد دفاع «الأستاذة فاطمة» تغير مذاق العدالة وتعمّق احترام المرأة.
تقول لكل مَنْ يقف ضد الحب وكأنها رسالة حكمة «لا تطفئ الشمس»، معها عشنا «بين الأطلال» فأدركنا أن الذكريات بداية وليست نهاية، «أيامنا الحلوة» دروس بليغة فى معانى العشق والصداقة، «صراع فى الميناء» يفجر أنوثتها الثرية التى تختار الشاب الفقير، حينما تصرخ «لا أنام» يزورنى الأرق على وسادتى.
 
مع «فريد» تغنى «جميل جمال» وتتمايل رقصًا خجولًا وقورًا، مع «محمد فوزى» تغنى «اللى يهواك اهواه واللى ينساك انساه».
 
«آثار على الرمال» يثبت آثارها التى لا تُمحى فى قلوبنا، يدللها يوسف وهبى فى «بيومى أفندى» وكأنها أميرة لا مثيل لها، وحين يناديها فريد فى «لحن الخلود» تطل عيناها الزاهدتان من بين النغمات، «لن أبكى أبدًا» هكذا تردد وهى تكافح من أجل البقاء، تضحى بقلبها من أجل فنها غير نادمة قائلة «حتى نلتقى»، حتى وهى تهمس «ارحم دموعى» كانت فى قمة الكبرياء، هى «المليونيرة الصغيرة» و«الملاك الظالم» و«الحب الكبير»، بحس الفلاحة الفطرى الذكى ترفض ثقافة «أفواه وأرانب»، فى «أرض الأحلام» تظهر لنا بتجاعيد الزمن دون حقن «بوتوكس»، لأنها تدرك أنها فوق الزمن، جلست على عرش «إمبراطورية ميم» تحكم بمنتهى العدل والديمقراطية، مع «فاتن» عشت عمرًا أطول من عمرى وأدركتُ أسرار القلوب قبل أن يدق قلبى لأن «القلب له أحكام».
 
لم تسمع آراء المشايخ وكارهى الفن والجمال والنساء فى ارتداء الحجاب والاعتزال، صوتها خيوط من حرير تلف أيامى.
 
كان آخر ظهور لفاتن للجمهور فى عيد الفن ١٣ مارس ٢٠١٤، بعد توقفه لمدة ٣٣ عامًا، حيث تم تكريمها ضمن ١٤ فنانة وفنانًا، وقف الجميع تحية لها وتصفيقًا لسنوات العمر التى أعطتها لفنها بكل الشغف والإتقان.
 
كيف لفاتن حمامة أن يكرموها وسط أخريات وآخرين وهى الجديرة باحتفال خاص بها وحدها يحمل اسمها حصريًا؟ لا أدرى، فهذه هى أحد الأوضاع المقلوبة فى حياتنا «ولازم تنعدل قريبًا» فى علاقتنا بتكريم أهل الفن والإبداع، وبتقدير دورهما الفكرى والجمالى.
 
«فاتن» ربما شعرت باقتراب نهاية الجسد، وأن هذا الاحتفال سيكون الأخير فى لقائها الشخصى الحى بالجمهور الذى أحبها وأسعدته، فلم ترفض الذهاب، وأطلّت فى الحفل إطلالة الفاتنات الوقورات الشامخات بتجاعيد وخطوط الزمن التى لم تحاول إخفاءهما بجراحات التجميل وشد الوجه، فهى تدرك جيدًا أنها بكل آثار الزمن أجمل من ملكات الجمال وممثلات تجمّد فنهن وتعبيراتهن وملامحهن من كثرة شد الوجه، هى على يقين بأنه رغم كل شىء يحدث لها هى «فاتن حمامة»، وسوف تبقى كذلك.
نقلا عن الدستور