في سابقة جريئة ونادرة في السينما المصرية، تمَّ عرْضُ فيلم «حظْر تجوُّل» للمخرج وكاتب السيناريو (أمير رمسيس) بمهرجان القاهرة السينمائى الدولى في دورته الــ 42، يعالج الفيلم قضية «زنى المحارم»، ضِمن قضايا المرأة المسكوت عن طرْحها في المجتمعات العربية.

 
تبدأ أحداث الفيلم في أحد أيام فرْض حظْر التجوُّل عام 2013، حيث تخرج «فاتن» (إلهام شاهين) من السجن بعد قضائها عقوبة عشرين عاما، محملة بفيض مشاعرها المتدفقة لابنتها وشوقها لأن تعوضها كل سنوات الحرمان، فتُقابَل برفض ابنتها التام لها، واستنكار «ليلى» (أمينة خليل) لقتْل أمها لأبيها، وعدم اقتناعها بوجود سبب من الأساس يُفضى إلى القتل وحرمانها منهما معا، لتعيش يتيمة في بيوت الأقارب.
 
وفى معالجة جادة تعود بالسينما إلى القضايا المؤرِّقة، ينساب العرض متَّسِمًا بأعلى درجات الرُّقى في الحوار، حيث إن المسكوت عنه لو انفتح؛ لقام بتعرية وتجريح كل الأطراف، وترسيخ الألم، وانهيار صورة الأب لدى الابنة، أو ربما تقويض الحياة بصورة عامة.. ولقد شمَل الرُّقى الفنى أيضا طريقة بناء المشاهد التي توظِّف مفردات الصورة وموجوداتها دون تجسيد منفِّر، أو تصريح فَجٍّ للحادثة المحورية، ورغم حساسية القضية؛ أجاد المصور (عمرو أبودومة) التعبير عنها، تصوير أسرة من الطبقة الوسطى التي تحرص على الحفاظ على منظومة القِيم السَّويَّة.
 
تُجسد (إلهام شاهين)- في تَجلٍّ يُظهر تاريخًا من النضج السينمائى والوعى وخبرة الأداء وحساسيته- أعقدَ المشاعر البشرية، فيْض حب أمٍّ لابنتها، والرغبة في احتوائها، رغم ما تُواجَه به من إحجام الابنة ورفضها لانخراطها في حياتها في كل لحظة، تجسِّد ببراعة أيضا الصمت والسكوت المطبق، بالرغم من أن كل خلجة بها تريد أن تصرخ لتقول إنها قد ضحَّت بنفسها وسُمعتها من أجل ابنتها لتمنع انهيار مفاهيمها الشاملة عن الحياة والعلاقات البشرية فتتركها حطام امرأة، ورغم حضور كل هذا القدر من التراجيديا؛ تفيض بعض مشاهد الأم بالفرح والمحبة والغناء، حيث ترى حفيدتها وابنتها بعد الحرمان؛ فتتجلى شهامة الأم المصرية وعاطفتها الحميمة من خلال المواقف، لكن طريقتها وأسلوبها تأثر ببقائها طويلا في السجن.
 
إن توليفة بناء هذه الشخصية المركبة تحتاج لممثلة تستطيع أن تَهبَ تداخُلَ كل هذه المساحات من المشاعر المتناقضة والمضطرِبة في حالة من التفاعل الدرامى أداءات متنوعة في كل مشهد على حِدة، ورغم سوداوية والتباس الحكاية وتعقُّدها؛ إلا أنها في حاجة لجذْب ابنتها وحفيدتها لحضنها؛ فينساب حبُّهما ناعما، وهى تغنِّى لـ(هدى سلطان): «خلاص يا دنيا هاتبقى حلوة».
 
لقد عوَّضتْ مساحاتُ الأداء البارع محدوديةَ عالَم الفيلم وانحصاره في معالجة حادثة لا يتم التصريح بها. ففى كل مشهد ومواجهة مع الابنة- التي يستنزفها السؤال الرئيسى: لماذا قتلتِه؟- يعبِّر جسد فاتن وملامحها عن شفا لحظة انفجار مدوية، لحظة تقاوِم الأم أن تعتقها وتُطلقها؛ فتظل في حظْرها التام؛ فيتجلَّى التناقض، تُصرّح لحسن (أحمد مجدى)- زوج ابنتها- قبل سفرها بأنها لو باحت بهذا السر المعتم ستنتهى حياتها تمامًا.
 
هذه العتمة التي تجلت على مستويات متعددة في بناء الفيلم: في الحظر، في اختيار زمن أحداثه حيث تجرى في ليلة حظْر واحدة طويلة مضطرِبة، في ديكور البيت وإضاءته، في اختيار الملابس وألوانها لـ(ناهد نصر الله). تقول فاتن لابنتها إن السجن لم يعذبها كما عذبها الاختيار، اختيار ابنتها لئلا تراها مدة العشرين عاما، في حين ترى ليلى أن أمها وضعتْ حاجزًا خرسانيًا فاصلًا بينهما حين اختارت الصمت، وأن سرَّها أكبر من أن تعرفه، صمتت الأم للحد الذي قبِلتْ فيه باتهام الجميع لها بأنها قتلتْ زوجها حين ضبطها مع «يحيى»؛ جارهم في العمارة، ولقد قام بدور يحيى الفنان الفلسطينى (كامل الباشا) في أداء معبِّر عن صراع عاشق نبيل مع الصمت الممتد في الزمن، وتحمَّل عدم احترام الآخرين له لظنهم أنه شريك في علاقة شائكة.
 
وحين يختار صُناع الفيلم اسم «حظْر تجوُّل»؛ فهم لا يشيرون فقط لحالة الحظر العامة التي عانت منها البلاد من جراء الإرهاب والتفجيرات، لكنها أيضا حالة الحظر الخاصة الواقعة على شخصيات الفيلم وكهوف ذواتهم، حيث الجميع يعرف ويعلم، لكنهم لا يريدون أن يعترفوا بالواقعة، الحظر من التجول في مناقشة قضايا المرأة بمنْع البوح بتحرُّش الأب بابنته. كما يجب الإشارة أيضا إلى تشوُّش ذاكرة الابنة، وحظْرها اللاإرادى للواقعة، والتعبير عن هذا سينمائيًا بتكرار عرْض المشهد الذي تعاود فيه ليلى التذكُّر تدريجيا مع تقدُّم مرور الأحداث، حيث تقع ذاكرتها في منطقة ما بين النسيان والرفض، هذه المنطقة التي بدأت في الذوبان حين عاشت ليوم واحد مع أمها، واستشعرت الحنان بداخلها وتفانيها في رعايتها، وهو ما نقلته (أمينة خليل) باقتدار ودون افتعال.
 
يبرز وعى الفنان وثقافته وشعوره بمسؤوليته تجاه وطنه وقضاياه، حين يرتفع فوق صورة النجم البراقة الجميلة لصالح الدور الذي يقوم به، فلا يرى الأولوية لشىء سوى اشتغاله على كل التفاصيل الصغيرة التي تُشيّد بنية الشخصية، والوصول بها للتفرد، والقيمة الفنية الفائقة، وهو ما صنعته (إلهام شاهين) في هذا الفيلم، حيث تتويج مسيرة فنية درامية متنوعة وهادفة في السينما والمسرح والتليفزيون.
نقلا عن المصرى اليوم