عاطف بشاي
كان أستاذنا المخرج الكبير «صلاح أبوسيف» يدرس لنا فى السبعينيات من القرن الماضى مادة الإخراج السينمائى ويشرف على مشاريع التخرج ويشغل منصب رئيس قسم الإخراج.. وكان ابنه المخرج المعروف «محمد أبوسيف» يزاملنى بنفس الدفعة (1976)، وأشهد أن الأستاذ بنزاهته المعهودة وخلقه الرفيع لم يجامل ابنه لحظة على حسابنا.. والدليل على ذلك أنه رغم المنافسة الشرسة بينى وبينه طوال سنوات الدراسة فقد كان ترتيبى الأول على الدفعة بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف.. ويوم ظهور النتيجة هنأنى الأستاذ بأبوة صادقة وظل ينظر لى بعين الرعاية والتقدير.. ويسعى إلى أن أتعاون معه..

أتذكر أنه قال لنا منذ محاضرته الأولى إنه بما أن السينما- والفن عموماً- إنتاج إنسانى.. وبما أن نظريات التحليل النفسى هى نظريات فهم الإنسان فلابد من الاهتمام البالغ بدراسة علم النفس دراسة مستفيضة للاستفادة المرئية من تجسيد الشخصية الإنسانية بكل مقوماتها الشعورية واللاشعورية.. الظاهرة والباطنة.. الواضحة والغامضة.. البسيطة والمعقدة.. علاقة تركيبتها النفسية بالمجتمع.. درجة تكيفها النفسى بالمجتمع.. درجة تكيفها النفسى مع الواقع.. الأمراض النفسية والعقلية وطرق علاجها.. وبناء عليه فإن رسم الشخصيات التى يبدعها السيناريست ويعبر عنها المخرج ويجسدها الممثلون لابد من التعمق فى فهم أبعادها النفسية فهما دقيقاً، فهى من أهم أدوات الكاتب، ومن ثم المخرج، فى البناء الدرامى للعمل السينمائى.. ومن هنا فإنه من باب أولى- بما أن الممثل فنان إنسان يجسد تلك الأبعاد ويتبع فى تجسيدها إرشادات وتوجيهات المخرج- فإن التعامل معه ينبغى أن يخضع لمدى فهم وإدراك وإحساس المخرج لتركيبته النفسية.. ميوله الشخصية.. سماته الانفعالية.. سلوكه مع المحبطين.. مزاجه العام... وهكذا.

ولأن الممثلين يخضعون بشكل عام لنظام مهنى محدد يفرض عليهم تنفيذ إرادة مخرج فى الحركة والأداء وطريقة التعبير الجسدى والانفعالى ودرجته.. فإنهم- لا شعورياً- يحسون أن حياتهم ووجودهم مرهون بتعليمات وإرادة المخرج وليس إرادتهم هم.. مما يجعلهم أيضاً- لا شعورياً- يتمردون أحياناً على هذا الوضع السلطوى.. ويحاولون تغييره أو فرض بديل له.. ومن هنا يحدث الصدام وسوء التفاهم بينهم وبين المخرج.. لذلك لابد من أن يتحلى المخرج بالصبر والهدوء والكياسة واللباقة والذكاء لاحتواء هذا التمرد.. لأن المخرج لابد أن يدرك جيداً البعد النفسى المتمثل فى أن الممثل يلعب أدوراً متنوعة لا علاقة له بها، فهو، واقعياً، لا يتطابق معها ولا يشبهها وليس مسؤولاً عن سلوكها.. ويعز عليه أن تمحى شخصيته..

وقد ضرب لنا الأستاذ مثالاً على لعبة تبادل الأدوار تلك التى مارستها النجمة «سعاد حسنى» معه فى فيلم «القاهرة 30» حينما دخل البلاتوه ليفاجأ بها ممسكة بنسخة من السيناريو، وفى مواجهتها يقف الفنان «حمدى أحمد» وقد تقمصت هى دماغ وشخصية ومهنة المخرج.. ومثلت معه مشهداً من مشاهد الفيلم وهى تصدر أوامرها له بالحركة (الميزانسين) وطريقة الأداء.. كأن تقول له مثلاً: تحرك فى هذا الاتجاه.. توقف.. التفت إلى الخلف.. اجلس.. قل الجملة التالية.. قم.. وهكذا.. واندمجت اندماجاً كاملاً فى شرح كل التفاصيل.. و«صلاح أبوسيف» واقف خلفها يتابع ما يحدث فى هدوء وصمت.. فلما التفتت بحركة عفوية خلفها فوجئت به.. ارتبكت لحظة.. ثم ما لبثت أن رددت له:

- مش كده برضه يا أستاذ «صلاح»؟!

الأستاذ يهز رأسه مجارياً مردداً:
- تمام.. تمام..

ثم يستدرك متسائلاً: وتفتكرى نحط الكاميرا فين؟!

ساعد فى ثقة تشير إلى مكان مرددة: هنا طبعاً..

الأستاذ يصيح منادياً أحد العمال.. يبادره: نفذ أوامر الهانم..

العامل يضع الكاميرا فى المكان الذى أشارت إليه.. بينما الأستاذ يصيح منادياً مساعد المخرج الذى يهرول مقترباً.. يبادره: ما تنسوش أما تكتبوا تترات الفيلم تضيفوا اسم الهانم.. يعنى تكتبوا: إخراج «صلاح أبوسيف» و«سعاد حسنى»..

يسقط فى يدها.. رد الفعل على وجهها حرج بالغ وخجل شديد.. تهتف فى توتر معتذرة متلعثمة:

- انت زعلت؟! مش قصدى.. أنا آسفة.

الأستاذ يردد ببساطة:
- لا أبداً.. أنا باديكى حقك.. انتى أخرجتى.. والمفروض فى الحالة دى يتكتب اسمك كمخرجة..

ثم ما يلبث أن يصيح للعامل أن يضع الكاميرا فى مكان آخر.. ويصيح:

- جاهزين؟!.. اتفضلوا.. نور.. دور.. أكشن.

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم