بقلم د. خالد منتصر
يدور لغط على وسائل التواصل الاجتماعى حول مقتل سعاد حسنى بتدبير من أحد رموز نظام الرئيس السابق مبارك بسبب مذكراتها التى ستفضح فيها النظام، ما سأكتبه لا علاقة له بدفاع عن شخص معين، ولكنه دفاع عن حقيقة وتدريب ذهنى على المنهج النقدى فى التفكير، فالكلام الذى تردد على السوشيال ميديا هو من قبيل طق الحنك وهلاوس المؤامرات وهذيان الضلالات التى لا توجد إلا فى خيال قائليها، وليس عليه أى دليل مادى أو منطقى، ويدل على أننا نفتقر فى تفكيرنا للمنهج العلمى ونخلط العاطفة بالحقيقة فتصير مشوهة ومشوشة.
 
يس هناك ما يرددونه سوى كلمة «مش معقول سعاد تنتحر»، «سعاد الجميلة المشهورة إيه اللى يخليها تنتحر؟»...
 
إلخ، بالعكس هذا الجمال وتلك الشهرة هما ما يجعلنى أؤكد أنها قد انتحرت، فالصراع الناجم عن تناقض حاضرها المنطفئ جسدياً وروحياً مع ماضيها اللامع هو الذى خلق هذا اليأس الجسيم والحزن العميق، لماذا لم يتساءل الغرب نفس الأسئلة مع انتحار روبين ويليامز ملك البهجة والمرح، لماذا لم يقولوا مش معقول كيف ينتحر هذا النجم الكوميدى؟ والسؤال الأهم: أين تلك المذكرات؟ انشروا صفحة واحدة منها حتى نصدقكم وتدعموا بها مزاعمكم، من هو الناشر؟ هل ظهرت فجأة؟ كتبت من قبل شارحاً لماذا أنا مقتنع بانتحارها وما هى أسبابى، وسأكررها مرة ثانية، اندهشت حينها ممن يصرون على إعادة تشريح الجثة، وكأن انتحار المكتئب حدث نادر ومستحيل! سعاد حسنى عاشت مكتئبة وماتت منتحرة، يعنى المسألة فى غاية البساطة والوضوح ولا تحتاج لكل هذا اللغط والضجيج، والعيش فى الوهم وادعاء وجود مؤامرة سرية من صديقتها نادية يسرى، أو جريمة قتل من الموساد الإسرائيلى، أو النكتة الكبرى أن هناك شخصيات كبيرة فى مصر خايفة من كتابة مذكراتها وإفشاء أسرارها!! كل ما سبق ينتمى إلى عالم الكوميديا ولا يصمد لأى مناقشة موضوعية، وسببه الأساسى هو رفض المجتمع لقبول فكرة أن المكتئب المنتحر هو شخص مريض وليس بنى آدم يائساً كافراً ملفوظاً من المجتمع ومداناً من الناس وخارجاً عن الناموس والشرع ومطروداً من الجنة! والسندريلا كان من المعروف أنها تعانى اكتئاباً شديداً، فهى شخصية مهيأة لذلك، وجاءت الظروف الضاغطة كعامل مساعد لكى تفجر بركان الاكتئاب عندها وتوصلها إلى درجة الانتحار، ومفتاح فهم مشكلة السندريلا كان فى رسالة الأنسر ماشين التى تقول «أنا زوزو»..
 
هى ما زالت تعيش نفسياً فى مرحلة زوزو الرشيقة المتألقة معبودة الشباب، ولكنها جسدياً تعيش خريف المرض والبدانة والاختفاء عن العيون فى ضباب لندن، حيث الهروب من أعين المتطفلين الذين كانوا فى الماضى «المعجبين»! هذا الصراع القاسى بين النموذج والواقع، وتناقض صورة المجلات الفنية والأفيشات مع صور المرايا والأشعات، جعل السندريلا تعيش مرحلة قاسية لمريضة اكتئاب بعيدة عن بلدها ودفء أهلها، تحتضنها صديقة مهما كان عليها علامات استفهام إلا أنها فتحت بيتها لها فترة طويلة، فلماذا تفكر فى قتلها، يكفى أن تطردها فقط، خاصة أنها لم تكن مليونيرة! تعانى من الجفوة والإنكار وسخرية الصحافة التى وصفتها فى مقالة شهيرة بالهمجية وهى التى كانت يوماً ما الملكة المتوجة على عرش قلوب شباب مصر المحروسة، فضلاً عن فقدانها لأبيها الروحى الكاتب والفنان الذى انتحر هو الآخر بابتلاع كمية هائلة من أقراص التجريتول التى لا تُغسل من الدم إلا بمنتهى الصعوبة!! كل ما سبق ألا يؤدى بمريضة مكتئبة لا تواظب على الأدوية وليست تحت رعاية طبية كاملة إلى الإقدام على الانتحار، أعتقد أن المقدمات تؤدى بشكل شبه قدَرى إغريقى إلى نتيجة واحدة، هى ما حدث من انتحار سعاد حسنى والذى انتهت إليه تحقيقات سكوتلانديارد والمحاكم الإنجليزية.
 
كنت وقتها قد حملت تساؤلاتى إلى د. أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسى والرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسى، وطلبت منه إجابة مباشرة عن سؤال محدد: هل مريض الاكتئاب الجسيم المنتحر كافر؟ ورد الدكتور عكاشة بحسم وبدون تردد: لا.. ليس كافراً، وحكى لى د. عكاشة أنه كان فى ندوة مع شيخ الأزهر والبابا شنودة حول القتل الرحيم، وجاءت سيرة المكتئب المنتحر، واتضح أن فهم مرض الاكتئاب يشوبه بعض الغموض والخلط عند رجال الدين، وقال د. عكاشة إنه وضح لهما أن انتحار مريض السكر بالامتناع عن الإنسولين يختلف عن انتحار المكتئب المريض، فالأول مستبصر وعارف ومدرك، والثانى غير مستبصر وغير مدرك وغير مُقدِّر لعواقب الأمور، إنه على حد تعبير د. عكاشة مريض فاقد الأهلية، فكيف نحاسبه على هذا التصرف ونكفّره بدعوى أنه يائس من رحمة الله! الأرقام التى ذكرها لى د. عكاشة صادمة، فقد قال إن نسبة الانتحار فى ما يسمى الاضطراب المزاجى ثنائى القطب من 15 إلى 20%، وقد نحت صلاح جاهين لهذا النوع من الاكتئاب لقباً خاصاً فأطلق عليه البسط اكتئابى، وفى كل 20 ثانية هناك واحد ينتحر فى منطقة ما من العالم، و70% من المنتحرين لديهم اكتئاب، وعدد ضحايا الانتحار أكثر من ضحايا الكوارث والزلازل والبراكين، يعنى ببساطة: بالعلاج الصحيح نستطيع أن ننقذ 70% من ضحايا الانتحار، ويُعد الانتحار فى مصر من وصمات العار، وما زالت ثقافة التعامل مع ضحايا الاكتئاب من المنتحرين يشوبها الجهل والإدانة والتكفير، فالمفروض أن تبلغ وزارة الداخلية بحالات الانتحار، ولكن ما زالت الأسرة المصرية ترفض اتخاذ هذا الإجراء لعدة أسباب، منها كما يذكر د. عكاشة، حتى لا يوصم المكتئب المنتحر المريض بأن إيمانه قليل، وأن الأسرة لم تعطه الحماية والأمان اللازمين و«ماعرفوش يربوه»، وحتى لا يقال عنه إنه يتحدى مشيئة الله، ومن ضمن الأسباب أيضاً أن الجيران والناس لو عرفوا إن البنت انتحرت لن تتزوج أختها وستعانى من العنوسة المزمنة! يظل خبر الانتحار مختفياً عن الأعين والأذهان ولا تعرف الأسرة أسباب انتحار المكتئب المريض الذى انتحر لأنه أحس بالعجز واليأس والخوف من الاستمرار فى الحياة، ويمنحه الاكتئاب هبوطاً حركياً وصعوبة فى الكلام وعدم اهتمام بما حوله، وعدم استبصار بعمق المرض.
 
وعندما سألت د. عكاشة عن الدفع الذى يقوله المدافعون عن نظرية قتل سعاد حسنى بأنها كانت تأخذ العلاج فكيف تنتحر؟ قال مؤكداً إن بعض العلاج من الممكن أن يستعيد من خلاله المريض وبجلسات الكهرباء مثلاً قدرته على النشاط الحركى والتواصل، ومن الممكن أن يزيد استبصاره بعض الشىء، ولكن ما زال محتوى المريض الفكرى عاجزاً، وبعدما كان لا يستطيع حركياً الإقدام على شىء من الممكن جداً بعد هذا العلاج أن يقدم عليه، ومن الممكن جداً أن ينتحر وهو تحت العلاج، ولذلك لا يُعد تناول سعاد حسنى العلاج دليلاً على أنها لم تنتحر، والدليل على عدم صحة ادعاءات أن العلاج الجزئى يمنع الانتحار تماماً هو حادثة انتحار الروائى الأمريكى إرنست همنجواى الحائز على جائزة نوبل، الذى كان فى المستشفى وتعرَّض لأربع جلسات كهرباء وخرج لينتحر بالبندقية، إذن شفاء وتحسين الهبوط الحركى لا يستلزم بالضرورة تخفيف وشفاء محتوى الاكتئاب.
 
إن ما يحدث مع قضية انتحار سعاد حسنى هو تلخيص لطريقة تفكير شعوب تتعامل مع مريض الاكتئاب على أنه مجرم، والمريض النفسى على أنه مجنون، والعلم على أنه تحدٍّ للمقدسات، إننا لا نشجع على الانتحار ولكن نناقشه بطريقة علمية حتى نفهمه، ونفهم معه لماذا وصف صلاح جاهين الإنسان بأنه الكائن الوحيد القادر على اتخاذ قرار الانتحار عندما تساءل: حد عمره شاف حمار بينتحر؟!