بقلم : ماهر عزيز بدروس استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ

الـبـابـا القبطــى..

بين الدولة الذمية والدولة المدنية

يثور بين وقت وآخر جدل عقيم حول دور بابا القبط فى الكنيسة وفى الدولة، فبينما ينخدع الكثيرون بأن البابا ليس سوى رئيس روحى للمؤسسة الدينية التى ترعى الشعب القبطى روحياً ودينياً فقط..

وبينما يتعالى صوت الحالمين بأهزوجة صَنَعَتْها الأمانى والأحلام مفادها "أن البابا هو الرئيس الروحى الذى يخضع له الأقباط روحياً فقط، ولا سلطان سياسى له عليهم، ولا يمثلهم سياسياً"..

وبينما يزايد المُدَّعون بأن البابا فى دولة القانون "لا يتدخل فى نزاع أو جرائم" يبطش فيها من يبطش بمن ينتسبون لمؤسسته الدينية كونهم أتباع دينه.. ويُفْتَرى ادعاءً أنها نزاع أو جرائم "بين مواطنين يقعون جميعاً تحت طائلة القانون.. والقانون وحده هو ما يفصل بينهم"..

أقول بينما يتعالى صوت أولئك ويزايد هؤلاء يسود التمييز الدينى كقانون للوجود، ويَطْغَى الفرز العنصرى كأساس للحياة، والبابا القبطى – رغم أنف الأنف – هو ممثل شعبه لدى الدولة التى تتجاهلهم كلهم فتلخصهم فى شخص مَنْ تفترض أنه ممثلهم البابا، الذى هو مربوط بذمة دين الحكم، وذمة الحكم، وذمة كل مؤسسات الحكم فى الدولة، وبقاؤه كله – وبالتالى كل من ينتسب لمؤسسته الدينية – مقيد بهذه الذِمِّيَّة تقييداً أبدياً لا فكاك منه.. تقييداً أبدياً ظاهره المدنية التى لا تلبث عند أول محك تتكشف عن ذمية متأصلة.. وأقول متأصلة لأنها لم تهبط علينا من كوكب مجهول؛ ولم تأت بمقتضى قوانين جائرة محفوظة فى صدور القضاء والناس، ومتوارثة فى كتب الأولين واللاحقين؛ ولا هى محض ممارسات "بعض النفوس الضعيفة"؛ كما هى ليست من صنع الشيطان.. بل هى متجذرة فى عقيدة وثقافة وتاريخ الذين حكموا، والذين عاشوا محكومين، بكل صنوفهم وعقولهم وطبقتهم حتى لقد صارت هذه الذمية أمراً حتمياً طبيعياً فى سليقة الحياة والناس..

بينما ذمة القانون التى ينخدع بها المُدَّعُوُن تبقى فقط رهينة خيالهم المحلق، تنافق أنفسهم والآخرين بإكليشهات جاهزة تمكنهم من الانتفاع بها على كل حال.

الحق أن بين الدولة الذمية والدولة المدنية علامات فارقة لا يخطئها اليقين:

فى الدولة الذمية البابا وحده هو المخول فى القضايا العنصرية أن يطالب بحق أحد ممن ينتمون له وينتمى إليهم، لكنه يَقْصُر عن أداء هذا الواجب الحتمى ولا يستطيعه؛ لأنه هو ذاته يكون موضوعاً للعنصرية حتى لو تسربلت العنصرية بغلالة شفافة مفضوحة من ادعاءات المدنية!!

بينما فى الدولة المدنية تصبح القضايا العنصرية هى أكبر الكبائر التى تهتز لها الإنسانية، وكل الأوساط الحقوقية، وفئات المجتمع المختلفة، لمناهضتها والتصدى لها بقانون الدولة المدنية، الذى يؤسس للحقوق المتساوية للجميع، ويصبح للبابا الحق أن يلجأ للقانون لرفع الظلم والضيم عمن ينتمون له وينتمى إليهم إذا أراد.

فى الدولة الذمية يكون البابا رئيساً لفئة مصنفة تصنيفاً عنصرياً، لا يوجد اعتراف بأى حق لها فى الوجود، اللهم الحق الذى يُمْنَحُ لها من قبيل التفضل والمَنَ، بينما حجبه بيد الدولة الذمية هو الأصل والأساس؛ والتصريح به هو الاستثناء الذى تُغْرَى به الجماعة الطائفية كجزرة على حد السيف.

بينما فى الدولة المدنية يكون البابا مواطناً كامل الأهلية القانونية، وله وجود كرئيس يمارس سلطات الرئاسة، بما فيها مسئولياته الجوهرية فى الدفاع أمام القانون عن أعضاء المجموعة التى يرأسها.

فى الدولة الذمية لا يوجد اعتراف للفئات العنصرية بأى حق لها، وكل إمكانية للحياة هى هِبَة يَمَنُ بها الطرف الأقوى على الطرف الأضعف، والطرف الأكثر عدداً على الطرف الأقل عدداً، والأصل فى المعاملة التضييق الكامل، لأن الأضعف والأقل عدداً هو بيد الأقوى والأكثر عدداً فى حالة عبودية مقنعة يمثل به تمثيلاً كيفما شاء.

بينما فى الدولة المدنية الجميع أمام القانون سواء، والقانون هو الأداة العادلة الوحيدة لإقرار حقوق جميع الأفراد دون اعتبار للقوة المادية أو العددية.

فى الدولة الذمية القانون عاطل تحل محله الجلسات العرفية، ومصاطب الذلة والعار، التى بمقتضى القوة الغاشمة تَسْلُبُ الأكثرية بها حقوق الأقلية، وتحكم عليها أحكاماً ظالمة، تنزع بها مقاليد حياتها، وتفرض عليها قواعد الامتثال والخضوع، وقد تفرض عليها الإجلاء الكامل، وترك أرضها وعملها وعيشتها للأقوى والأكثر عدداً، غنيمة تحكيم عنصرى جائر.

بينما فى الدولة المدنية قاعات القضاء هى الموضع الطبيعى للاختصام فى الجرائم، والشكاية فى العدوان، والمطالبة بالحقوق المهدرة فى الذلة والهوان.. والقاضى هو رجل العدل الذى يأبى ضميره أن يحكم بالظلم، وتمتنع حقانيته عن أن يقضى بقواعد شريرة تسلب صاحب الحق حقه، وتُسَيِّد عليه إرادة المجرمين.

نعم.. فى الدولة المدنية القانون فاعل فعلاً قوياً يستوى فى ظل فعله وقوته جميع الفرقاء وجميع الفئات وجميع الطوائف فى الوطن؛ وإذا وُجِدَت أقلية يُقَدِّمُ لها القانون الحماية الأكبر، ويصون لها حقوقها بأولوية حاسمة.

فى الدولة الذمية لا يكون للقانون وجود حقيقى فاعل، وإنما وجوداً صورياً شكلياً ديكوراتياً فاقداً لقوته، ولا يَمْنَح القانون فاعلية حقيقية للمجالس النيابية التى أقصى ما تقدمه هو خداع ديمقراطى فج، يُستَخْدَم للجور على الحق وتكريس الظلم، حيث يوأد صوت ممثلى الأقلية بوسائط إخراس الألسنة وطمس مشاركتها.

بينما فى الدولة المدنية يؤسس القانون الأجهزة النيابية التى تمثل الشعب، بحيث يكون لها دور بارز فى حماية القانون وتطبيقه؛ حيث الأقليات ممثلة تمثيلاً قوياً يمنحها قدرة التأثير الإيجابى فى حماية حقوقها.

فى الدولة الذمية لا يكون لأفراد الأقلية المختلفة دينياً وجوداً حقيقياً سوى لاستعمالهم واستخدامهم وحصرهم فى أضيق أركان الحياة، فلا يجدون لهم متنفساً سوى فى مؤسستهم الدينية، والمؤسسة الدينية ذاتها لا اعتبار لها سوى بوصفها كياناً منتحياً يمثله رئيسه البابا فقط أمام الدولة، وهو الذى ينوب أمامها عن كل مؤسسته وجمهور شعبه.

بينما فى الدولة المدنية يمارس الجميع – أغلبية وأقلية – أنشطتهم الحياتية فى مؤسسات الدولة خارج أسوار المؤسسات الدينية، التى ينحصر دورها فقط فى حفظ الحياة الروحية لأتباعها.. بينما رحاب الدولة كلها فى جميع مناحيها ملك مشاع لجميع الشعب على قدم المساواة، يشاركون فيه بقواعد يرضاها الجميع ويلتزمون بها، على أسس إنسانية لا تبصر سوى إنسانية البشر وحقهم المتكافئ فى كل شئ.

فى الدولة الذمية يسود الوهم والادعاء والتخريف بأن البابا هو أب جميع الأقباط.. فهم أولاده وهو أبوهم.. وتتعامل معه الدولة باعتباره الممثل السياسى لهم، والنائب عنهم، وكل ما يصدر عنه يمثلهم تمثيلاً شاملاً، فلا يعنيها أبداً سوى التعامل معه فقط دون الجميع.. أليس هو أبوهم وممثلهم والنائب الوحيد عنهم؟

فإذا تخلى عن أفراد شعبه فى آلامهم ومآسيهم ينبرى المنافقون الأقباط بكل قدرتهم على الغش والمخاتلة ليحللوا له أمام الشعب والدنيا أنه لا يكون أبداً خائناً لهم ولآلامهم ومآسيهم المتسببة عن وضعيتهم الذمية.. بل يكون حكيماً عظيماً يتقى بإنكار عذاباتهم.. والتخلى عن الدفاع عنهم.. شروراً أكبر وأذل.

ففى الدولة الذمية يجد البابا القبطى ذاته مدفوعاً ليؤدى دوراً رئيسياً فى المجال السياسى، فيستمرئ الوضع السلطوى الذى يُسْتَخَدَم بمقتضاه أداة جوهرية لتكميم شعبه، وسحق احتجاجاته على أى ظلم أو جور يقع عليه..

بل فى الدولة الذمية يسوق البابا القبطى شعبه كالنعاج رضوخاً لكل افتراء أو كذب أو مداراة على الحقيقة.. أى حقيقة.. وينافق عنها نفاقاً صارخاً ليملأ الدنيا كلها بادعاءات أن شعبه يسبح للـه حمداً على نعمة المساواة والحقوق فى الدولة.. ومن منهم يقول بغير ذلك فهو جاحد يستحق الإقصاء..

وعندئذ يكون كل ما يتمناه المظلومون والمقهورون والمغتصبة حقوقهم أن يصمت البابا عن النفاق المخزى، أو يقل نفاقه ليقل إيلامه الغائر كسيف حاد في نفوس المظلومين والمقهورين والمغتصبة حقوقهم..

فى الدولة الذمية يعلن البابا فى كل ظلم فادح يقع على واحد من شعبه أن شعبه بمأمن من كل ظلم؛ وينتشر الإدعاء بحكمته السامية فى مجاراة الذمية الشاملة.

فى الدولة الذمية يُصَادِق البابا القبطى على سحق القانون والاحتكام بديلاً عنه لحكم المصاطب المسماة بالمجالس العرفية أو "بيت العيلة"؛ حيث يتكاتف العمدة والداعية والحرس والأعيان والمجرمين الفاعلين على تبرئة المجرم الذى أحرق البيوت، وقتل الناس، وسلب ممتلكاتهم، وطرد أهليهم هائمين على وجوههم فى الأرض دون مأوى أو مورد رزق.. بل ومنح المجرم كل المزايا، وسجن المُعْتَدَى عليهم، وعقابهم لأنهم تجرأوا على الشكوى والبكاء والمناحة العظيمة.

فى الدولة الذمية يصير البابا شريكاً رائعاً فى قمع الأبرياء من شعبه، وعقابهم إذا لم يعتبروا المهانة الواقعة عليهم غاية الشرف والفضل لإبقائهم على قيد الحياة، رغم الأثم الذى لا يغتفر لهم أبداً كونهم على دين مخالف لدين الدولة!!

فى الدولة الذمية لا يكون البابا القبطى كذاباً أو منافقاً لو أنكر غُبْناً واقعاً على أفراد أو جماعات من شعبه.. بل يكون حكيماً عظيماً لأنه بذلك يحاول أن يمنع جوراً أفظع وأشد يقع على أفراد شعبه..

وفى هذه الحالة لا يجوز أن يهاجم أحد البابا أو يسخر من حكمته.. لأن خروجه عن خط الذمية المرسوم له من رابع المستحيلات.. وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور تنتظره على عَجَلّ..

فى الدولة الذمية ينبرى الكثيرون من الأقباط الذين يرفلون فى أوهام المدنية والتنوير واللغو العظيم لينشروا أكاذيب غاشة عن خضوع كل شئ لسيادة القانون، ويتمادون فى الغش والنفاق فيؤكدون أن على الأقباط سلوك الطريق القانونى لأن مطالبهم تتعلق بالدولة المدنية، وليس لرجال الدين أى دور فى التحدث عنهم كممثلين سياسيين عن الأقباط؛ بينما رجال الدين ينبرون فى كل وقت كممثلين سياسيين عن الأقباط فى وقت لم يفوضهم الأقباط سياسياً عنهم البتَّة.

فى الدولة الذمية ينكر الجميع أن الدولة ذمية.. ويقسمون بأغلظ الإيمان أنها دولة القانون.. بينما لا قانون يُطَّبَق، بل منظومة قواعد أخرى تختلف تماماً عن القانون، تمنع الحق والعدل منعاً باتاً عن الذميين الذين حياتهم كلها فى ذمة كل من يدوسهم بنعليه عند الإقتضاء.

فى الدولة الذمية يكثر المنافقون الأقباط كثرة مرعبة؛ بينما يقسمون بأغلظ الإيمان أنهم يتبعون الحق والعدل؛ وأن السعى لدولة القانون وترسيخها أمر ممكن؛ بينما هو من رابع المستحيلات فى الواقع ونفس الأمر.

وإزاء هذه الأوضاع المتأصلة يظل السؤال يُلِّحْ:

هل توجد أية علامة من علامات الدولة المدنية التى حاولنا استشرافها الآن فى الواقع الحىّ؟

الحق أن الدولة لن تصير مدنية إلا أن تتحول عن اعتبار البابا مسئولاً عن الأقباط وممثلاً لهم، فيظهر للأقباط خائناً لشعبه إذا هو لم يحمل بذاته آلامهم للدولة، ويتشفع لهم أمامها بمقتضى المسئولية التى تخولها له الدولة عنهم..

ذلك أن البابا ليس فى الحقيقة ونفس الأمر مسئولاً عنهم؛ وليس ممثلاً لهم؛ ولكنه فى الدولة المدنية مواطن وَحْدُهُ أمام القانون، والكل فى ذمة القانون وليس فى ذمة دين أو شخص أو جهاز أو مواطنين آخرين أمثالهم..

وهل بعد ذلك يَدَّعِى مُدَّعٍ أن الدولة – حقاً – مدنية؟

 

إن تأكيد الامتثال المتكافئ للقانون، وتسييد المساواة المطلقة فى الدولة، والقضاء على التمييز والفرز والعنصرية، كأركان رئيسية للذمية الطاغية، لن يكون فضلاً لأحد، ولا منحة ولا منة من أحد، بل يتعين أن يكون خلاصاً لمصر من عار لصق بها عبر السنين مازالت تلتزم به كأخص خصائصها التى تعيش وتباهى بها وسط عالم يُعَلِّى عبر مسيرة طويلة للإنسانية مَكَانَة الإنسان وكرامته وحقوقه وقيمَتَه وقِيَمَه، فلا يعود بابا القبط ذميَّاً بل مواطناً طبيعياً ككل أقرانه المواطنين.