وبدأت «صفحة» جديدة من «كتاب» الزمان..

«زهرة» أخرى، تطل من «بستان» الوجود، ترى أنعرف القراءة؟ وهل نجيد فن التعامل مع الزهور؟ تمنحنا الحياة وقتًا إضافيًا لكى نثبت بالأدلة القاطعة أن بين ضلوعنا «قلوبًا» عاشقة، خيّرة، عادلة، ونستحق أن يمتد بنا العمر سنة أخرى.
 
كم هى «كريمة» الحياة.. وكم هى «بنت أصل صحيح».. تغاضت عن أفعال البشر، التى تلوث «جلد» الكون بالدم وطفح الكراهية ودمامل الطمع.. تسامحت مع الكذب، والخوف والنفاق، الذى يرفع حرارة هذا الكوكب.. تناست أمراض التملك الغاشم، والنزعات المستبدة لاحتلال الأرض والنساء والفقراء والكبرياء.. تجاهلت ضحايا تناثرت أشلاؤهم باسم الجهاد فى سبيل الله، وتحت راية صحيح الإسلام، والحرص على الدين والفضيلة، أو ثأرًا للشرف الذكورى.
 
تغاضت عن سطوة اللهجة الدينية وإرهاب المشايخ وفتاواهم السلفية المتجهمة، المضادة لكل ما هو مضىء ومشرق ومحفز للحرية ولـ«ثقافة» الاستمتاع بالحياة، ولكل ما هو محرض على «حضارة» الفرح.
 
شكرًا للحياة، التى نحولها إلى «مقبرة» لا حدود لها و«سرادقات عزاء» لا تنتهى، ومع ذلك لا تيأس من إصلاحنا.
 
شكرًا للحياة، التى نذبح أشجارها، ونسكب عليها غليان تعصبنا وحقدنا ولا تزال «تراهن» علينا لعدل الميزان المائل.
 
لكن الحياة لمصلحتنا تريد أن تجعلنا نفيق قبل فوات الأوان، فأرسلت لنا «الوباء» العالمى، يميت ويهدد كما يشاء، ربما هى فرصتنا الأخيرة لكى «تنضبط» مبادئنا و«تتأدب» أخلاقنا و«ترق» قلوبنا، التى تنافس الحجر فى صلابته.
 
ماذا أكتب مع بدايات عام جديد، مع بدايات الشهر الأول «يناير ٢٠٢١»؟.
 
هل أرصد أحداث العام الماضى؟.. لا أحب النظر إلى الخلف والتفتيش فى جيوب الماضى.
 
تختلط المشاعر.. وتتشكل داخلى آلاف اللوحات.
 
أرى وطنًا غير الوطن، أتخيل رجالًا غير الرجال، نساءً غير النساء، ضحكًا غير الضحك، حزنًا غير الحزن، أغنيات غير الأغنيات، قصائد تعلن حرية كل الأشعار، أمنيات غير الأمنيات، أخلاقًا غير الأخلاق، هدوءًا يلف الكون، وعشقًا يرفعنى إلى مجد الأشواق.
مع بداية كل عام، تكبر سنوات عمرى «سنة»، وتصغر أمنياتى وأوهامى أزمنة.. أعاهد نفسى بألا تجرفنى الأمواج وأن أظل نشوانة بسباحتى بعيدًا عن شواطئ الصخب والتشابه والعيون المحدقة.
 
وكل عام فى بدايات شهر «يناير»، أقرر ألا أدع سلوكيات البشر تؤذينى أو تغضبنى.
 
ولكن ها هو ٦ يناير يعود من السفر البعيد، اليوم الوحيد فى كل شهر «يناير» الذى يهمنى أمره ويهمنى أمرى معه.
 
٦ يناير، تاريخ محفور فى نفسى.. ممتزج بدمى، مقيم فى الروح.. ٦ يناير مولد رجلين، يسكنان القلب إلى الأبد، وقد رحل الاثنان، بعد عمر قصير، دون كلمة وداع تمهدنى للفراق.
 
الأول، مولد مبدع متعدد المواهب.. كلماته معطف يدفئنى فى كل الأوقات، يعزينى فى آلام لا أستحقها.. غربته من نسيج غربتى.. حكمته رفيقة وفية لوحدتى.
 
إنه جبران خليل جبران، ٦ يناير ١٨٨٣- ١٠ أبريل ١٩٣١، الذى اعتصر مشاعره وأفكاره، لكى تنير لى الطريق إذا ما أظلمت الدنيا، وانطفأ ضى الذكريات.. وليس صدفة أن الأديبة «مى زيادة»، التى تشبهنى فى أشياء كثيرة، لم يخفق قلبها إلا لـ«جبران»، وهو الآخر أحبها كما لم يحب أى امرأة، والرسائل العاطفية بينهما تاريخ من العاطفة النبيلة الراقية.
 
والرجل الثانى، مولد محمد فتوح، ٦ يناير ١٩٥٥- ١٣ أكتوبر ٢٠٠٨، توأم الروح، أو الأكثر دقة هو «أنا» فى شكلها الرجولى، ابن قرية الدراكسة، مركز منية النصر، محافظة الدقهلية.
 
إنسان نادر الوجود، أصيل المعدن، الذى وهبنى حبه وحنانه اللانهائى ونبل أخلاقه وأجمل أيام عمره القصير.. لم تمهله قسوة الأقدار أن يكمل سلسلة كتاباته التى بدأها على صفحات مجلة «روزاليوسف»، وأن يقدم موسيقاه وألحانه.. ومن كتبه:
«الشيوخ المودرن وصناعة التطرف الدينى».. «أمركة أم أسلمة.. مَنْ الضحية؟».. «استلاب الحرية باسم الدين والأخلاق».. «التلوث البصرى وتذوق الجمال».. «الآثار النفسية للتلوث البصرى».
 
الألبوم الأول والأخير لمحمد، كان بعنوان «فى أول شهر يناير»، يحتوى على ٨ أغنيات من ألحانه وبصوته ومن كلمات ماجد يوسف وسمير الأمير وأنا.. وقد كتبت له من ضمن أغنيات الألبوم أغنية «فى أول شهر يناير»، لتعبّر عنه، وتجسد فلسفته.. والألبوم كله وضعته على «يوتيوب».
 
كان «محمد» بالنسبة لى كل الوجود، نعيم الدنيا، راحتها وأفراحها.. قضيت نصف عمرى فى البحث عنه.. وأقضى نصفى الآخر حزنًا وحسرة عليه.
أجلس بجانبه على فراش الموت، يرى الجزع والعجز والألم فى عينى اللتين تبكيان دون دموع، فيقول لى: «لا تجزعى حبيبتى... يوم واحد نعيشه كما نؤمن بالعمر كله، وأنتِ كل ما، ومَنْ، آمنت به.. فقط عِدينى أن تبقى حرة كما أنتِ، كما عرفتك.. عِدينى أن تفرحى كلما جاء يوم ٦ يناير».
نقلا عن الدستور