كمال زاخر
كانت بدايات تأسيس الدولة الحديثة مع تولى محمد على الحكم، 1805م ـ وابتعاثه نفراً من شباب مصر الواعد إلى الغرب، وقد نقلوا حال عودتهم ما تحصلوا عليه من علم وخبرات ومشاهدات ليؤسس عليه هذه البدايات، وكان ابرزهم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى الذى سجل تجربته فى كتابه "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز". 
 
على أن ارهاصات الاشتباك مع معطيات التحول الى الحداثة، بمفهوم ذاك الزمان، كانت قبل تجربة محمد على بسنوات قليلة، مع الصدمة الحضارية التى احدثتها الحملة الفرنسية على مصر (1798 ـ 1801)، وكانت المصادمة مع الغرب بامتداد التاريخ الحديث هى المولدة لشرارة التغيير عندنا، فى اتجاهين، الأول محاكاة انساق الحياة والحكم هناك والثانية استنفار الأجسام المضادة لحماية الإرث الوطنى والتاريخى العريق والتحصن به.
 
ومن هنا كانت محاولاتنا استنساخ النظم السياسية الغربية وتعريبها وتمصيرها، كانت فكرة الديمقراطية واحدة من أهم تلك الأنساق، لكن الواقع العربى والمصرى حال دون نجاحها عند كلاهما، ذلك لافتقارهما للمناخ المجتمعى والفكرى والسياسى الذى يمثل البيئة الحاضنة والمنتجة لنسق الديمقراطية بمفهومه الغربى، هناك سلسلة من التطورات الفكرية التى قادها عدد من المفكرين رسخوا لفكرة الديمقراطية، لعل ابرزهم "جان جاك روسو" وكتابه "العقد الاجتماعى"، ثم حركة الإصلاح الدينى التى اسست لفصل الدين عن الدولة ، وبروز قوى اقتصادية تعمل على حماية مصالحها والتى تتصادم بالضرورة مع بعضها، ومع الطبقة العاملة، وتشكل كيانات سياسية تتبنى الدفاع عن مصالح هذه الكتل الاجتماعية والاقتصادية المتضاربة، ما بين احزاب ونقابات، وكانت الديمقراطية هى الأرضية التى تحمى الأوطان من تغول إحداها على الأخرين. 
 
لم نستطع فى عالمنا فى الشرق بلورة هذه المعطيات على الأرض، لذلك ظلت المؤسسات الدينية غير بعيدة عن التأثير وربما التدخل فى مسارات وتوجهات الدول، ولم تعد الأحزاب كيانات سياسية تدافع عن توجهات او تكتلات اقتصادية أو اجتماعية، ولم تصمد النقابات أمام ارتباكات التحولات السياسية.
وقد قفز مؤخراً فى قاموس مصطلحاتنا السياسية مصطلح "المواطنة" والذى يعنى العلاقة بين المواطن والوطن، وما ترتبه من حقوق وواجبات لكلا الطرفين قبالة الأخر، ولما كان الوطن هو محل احترام وتقدير عند المواطن فهو يصلح أرضية ترتب منها منظومة حقوق المواطن وواجباته، وتكون المواطنة، من ثم، هى مدخلنا الصحيح لبناء ديمقراطية تتسق وطبيعة التكوين السيسيولوجى والإنسانى فكراً وموروثاً عندنا. 
 
وعلينا أن نبحث فى ترسيخ هذا المفهوم فى الشارع، وحمايته من الإنقلاب عليه، وحتى يتحقق لنا هذا لا بديل عن نشر ثقافة المواطنة عبر آليات تشكيل الوجدان والعقل الجمعى وبناء الوعى العام، وهى منظومات التعليم والثقافة والإعلام، التى تحتاج لإعادة هيكلة بما يجعلها قادرة على القيام بهذه المهمة. 
البداية عند المواثيق القانونية التى تحكم حركة المجتمع والعلاقات البينية داخله، الدستور والقوانين المنبثقة منه، بدرجاتها المختلفة. خاصة فيما يرتبط بحقوق المواطنة السياسية والقانونية، والتى تأتى فى سياق منظومة الحريات والعدالة، استئناساً بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، ديسمبر ‎1998، ‏"الإعلان المتعلق بحق ومسؤولية اﻷفراد والجماعات وهيئات المجتمع في تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها عالميا". 
 
وهو الأمر الذى أكده الدستور المصرى عام 2014، بداية من مادته الأولى التى تنص على أن (مصر نظامها جمهورى ديمقراطى، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون).
 
الدولة والمواطن هما جناحا تفعيل وتحقق المواطنة، والبداية تأتى من الدولة بالضرورة، بما تملكه من قدرة على فرض ما تتبناه من توجه، ورؤية وآليات مستقرة ونافذة، ولعل ما يدعم هذا اصرار الرئيس فى كل اطلالاته وتواصله مع الشارع عبر لقاءاته المتنوعة، على دعوة المواطنين للمشاركة والتفاعل مع هموم الوطن ودعم تطلعاته لبناء مصر حديثة، واقتحامه بجسارة للأزمات المزمنة، وتشهد سنوات قيادته على هذا. حتى جائحة الوباء لم تثنه عن مواصلة سعيه الجسور وبمعدلات أسرع، ومتابعة ثاقبة وحازمة على الأرض، توثقها تقارير الإعلام بالصوت والصورة. 
 
وفى ايجاز نتطلع أن يكون عام 2021 هو عام بناء الإنسان، البشر، بنفس نهج بناء الحجر، الرؤية والفاعلية والمتابعة والمراكمة، وهو عام يشهد قدوم برلمان جديد يحتل الشباب فيه حيزاً مؤثراً، ويضم بجوارهم ـ بغرفتيه النواب والشيوخ ـ خبرات متميزة تنبئ بموسم تشريعى ورقابى مثمر وجاد، لهذا ننتظر منه مراجعة الوثائق القانونية وتنقيتها من المعوقات وعلى رأسها الدستور، وترسيخ مفاهيم المساواة والعدالة بشكل مطلق فى مؤسسات الدولة، عبر تشريعات واضحة وقاطعة.
 
وبخبرة الحكومة التى حملت عبء مرحلة بناء البنية التحتية، وانشاء شبكة الطرق التى ربطت بشكل مدروس ومبهر ارجاء البلاد، والتوسع الأفقى عبر الظهير الصحراوى؛ ننتظر أن تتبنى اعادة هيكلة منظومات التعليم والثقافة باعتبارهما الأساس الذى ينطلق منه سعى نشر مفهوم المواطنة، 
ويبقى مأزق اعادة المؤسسات الدينية إلى موقعها الصحيح فى دولة المواطنة لتصير واحدة من مؤسسات التكوين وليست الوحيدة أو الموجهة له. ومسئولية الخروج منه مشتركة بين سلطات الدولة الثلاث والمجتمع المدنى بتنوعاته. 
 
ونأتى إلى دور المواطن الذى لا يقل أهمية عن دور مؤسسات الدولة، وهو القبول بمبدأ التعدد والتنوع، والخروج من عباءة الطائفة إلى براح الوطن. 
بين الدولة والمواطن يتطلب سعى ترسيخ مفهوم المواطنة عدة أمور؛ أولها اعادة ضبط العلاقة بين الدولة والإعلام، وبناء الثقة بينهما، وثانيها فتح منافذ الحوار الموضوعى عبر آليات المحتمع المدنى، وثالثها احياء الشارع الحزبى بما يتفق ومستجدات الثورة الرقمية والتواصل عبرها، والخروج من انماط ما قبلها، ورابعها الانفتاح الثقافى على الثقافات الأخرى فى ضوء تطورات العولمة.