محمد حسين يونس
جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر.. كانا من أصدقاء والدى .. و كان كل منهما يزورنا  .. و في بعض الأحيان يدور بيننا أحاديث قصيرة و دودة  حتي يحضر والدى من الداخل .

كنت أعرف أن أنكل عبد الحكيم من الضباط.. فلقد زارنا عدة مرات و هو يرتدى الزى العسكرى .. و لكن لم أعرف إن أنكل جمال ضابطا إلا بعدما نشرت صورته في الجرائد  مع الضباط الأحرار.. فتعلقت بهما و تتبعت أخبارهما حتي أصبح كل منهما (نار علي علم ) .

 عام 1952 .. بدأ سيئا فلقد حرق البعض القاهرة .. يوم الإحتفال (بسبوع) ولي العهد أحمد فؤاد الثاني في قصر عابدين ..و إمتدت الحرائق حتي طالت  جزء من  ممتلكات اليهود في حينا.. و بعض المنشئات الأخرى .

و مع خطورة الموقف .. وفرض حظر التجول ..و نزول الجيش للسيطرة علي متسببي الحرائق .. إلا أنني ذهبت لميدان فاروق ( الجيش بعد ذلك ) ورأيت السنة النيران  تحرق المدرسة الإسرائيلي  و كنت أبكي .. خوفا أو حزنا أو من الدخان ..و لكنني لم أتوقف عن البكاء حتي عندما عدت لمنزلي .

فؤاد سراج الدين وزير الداخلية الوفدى .. وقع في مأزق .. فكل قيادات البوليس و الجيش في قصر مولانا .. و هو قد فقد السيطرة .. لذلك لم يكن غريبا أن  يتقدم النحاس باشا بإستقالته .. و لكن الملك رفضها و أعلنت الأحكام العرفية و منع التجول .و وقف الدراسة لاجل غير مسمي لأحرم من مدرستي التي أحبها و أعتبرها بيتي الثاني

 عندما عاد والدى من العمل عرفنا أن المحلات الكبرى قد حرقت و نهبت .. كذلك دور السينما و فندق شبرد الذى كان في وسط البلد و كان والدى يرجح أن الحرائق من صنع الإنجليز لإحراج الوفد الذى الغي من ثلاثة شهور.. معاهد 1936 .. و حرض العمال المصريين علي ترك عملهم في خدمة جنود الإحتلال ( بالأورنس )  

و شجع العمليات الفدائية التي كان يقوم بها ناس عاديين زى أم صابر و أخرين لا أذكر أسماؤهم و تنشر  أخبارهم بالخط العريض في الجرائد اليومية فخرا .. و إعتزازا و تحريضا علي الإستمرار  

ولكن ما قيل بعد ذلك أن الأخوان هم الذين حرقوا القاهرة لان من قاموا به كانوا مدربين علي أعمال الإرهاب و هم أصل الإرهاب و الإغتيالات بمصر .

 ثم قيل أنه أحمد حسين رئيس مصر الفتاة .. و لكن لم يثبت هذا أو ذاك ولازالت القضية لم تحسم و لم نعرف من الذى حرق القاهرة عام 1952 .

 الفترة من الحريق حتي إنقلاب العسكر الأول .. سادها الإرتباك و تغيير الوزارات .. عدة مرات .. لذلك عندما أعلن الضباط الأحرار عن حركتهم المباركة .. قوبلوا بحب و ترحاب .. و تأييد من أغلب المصريين

.في ذلك الوقت كان الصبي الذى تخطي مرحلة الطفولة .. تلميذ في مدرسة فاروق الأول .. و كانت مدرسة نموذجية لم أشهد خلال الستين سنة التالية ما يماثلها .. فصول واسعة .. أعداد قليلة من الطلبة في الفصل الواحد ..مختارين علي أساس صغر السن و التفوق في إمتحان شهادة الإبتدائية ( القديمة )

و لم يكن هناك إهتمام كبير  بمكانة العائلة الطبقي .. فالفقراء يمكنهم أن يقدموا طلبا بإعفائهم من الرسوم المدرسية .. و يقبل ما دام التلميذ متفوقا مواظب و منتبه و ينجح بإستمرار .

 في مدرستي لم نكن نتعلم علي أيدى أفضل المدرسين فقط بل كان بها ملعب كرة قدم قانوني و تراك العاب قوى .. و حمام سباحة .. و صالة شيش ..ملعب إسكوتش .. و عدة ملاعب للتنس و الباسكت بول .. و الكرة طائرة .. و العاب القوى .

 وبالمدرسة مطعم يسع كل الطلاب .. و يتحول في حالة الضرورة إلي مسرح .. كما كان بها معامل للكيمياء و الطبيعة و متحف للأحياء ..و إستوديو للنحت و عمل تماثيل من الصلصال .. و أخر للرسم .. كما كان بها جماعات للتمثيل و الخطابة ..و الحديث باللغات الأجنبية .. وفريق للكشافة ..و كان بوسط المدرسة حوش تقام فية طوابير الصباح و تحية العلم .

كنا نبدأ يومنا في السابعة صباحا .. و يمر علينا في الطابور مدرس الفصل للتأكد من نظافتنا و حلق الشعر و تقليم الأظافر و لمعان الحذاء و أن كل منا معه منديل أبيض نظيف ..ثم نذهب للفصول علي وقع مارشات خفيفة يعزفها بعض الطلاب ..و نأخذ فسحتين .. أحدهما صغيرة .. و الأخرى طويلة نتناول فيها الغذاء في المطعم مع إشراف المدرسين بأننا نستخدم الأدوات..

ثم نزاول الانشطة العديدة بما في ذلك فلاحة البساتين .. و عمل المربات و الجبنة و المخللات . .. و ينتهي اليوم الساعة الخامسة..فنعود لمنازلنا بعد عشرة ساعات من النشاط و العلم و المتعة .

منزلنا كان في حي السكاكيني .. يطل علي شارعين فرعيين (كنيسة الإتحاد و سوارس ) وبالخلف حارة صغيرة يقام بها صواوين الأفراح .. فنشاهد  العوالم و هن يرقصن و يغنين .. و المتفرجين ( ينقطوهن ) لكي تستمر الزيطة .

في بعض الأحيان كانت دقات الزار لا تتوقف ليل نهار لمدة ثلاثة ايام .. و نرى السيدات اللي عليهن عفريت يرقصن بحركات سريعة حتي يغمي عليهن من الإجهادو خروج الاسياد ..فتطلق الكودية البخور .. و تصيح .. فلقد نجحت في طرد اللي لبس الضحية .

و كانت الحارة تشهد في بعض الأحيان وصلات ردح بين المتشاجرات تؤجر فيها محترفات ( يفرشن الملاية ) و ينعتن الخصم بأقذع الألفاظ .. و إذا تدخل الرجال يقلعن ملط فيخجل الرجل و يدخل لمنزلة .

الحارة كانت شديدة الحيوية..و كنا نعرف سكانها بالإسم .. و نوادر كل منهم و مهنته .. و عدد أولادة ..و إن لم يكن منتشرا الزواج بأكثر من واحدة إلا إن عم عثمان السباك كان متزوج إثنين يعشن معا في نفس المنزل .و لا يتوقفان عن الخناق و الصياح .

 في الشارع كانت تقام مباريات كرة القدم ( الشراب ) و تتنافس فرق الحي التي لها أسماء مثل ( الأسد المرعب ) ..

و كان يتحرك الباعة الجائلين يغنون بأصوات جميلة علي بضاعتهم (لا تين و لا عنب زيك يا جميز يا أحلي من التين و العنب )..( يا بو العيال هاتلك شيال خمسين كحكة بقرش أبيض ) .. أو يجرون خلف عجل ذاهب للسلاخنة و ينادون ( من دة بكرة .. بقرشين ) ..

 لقد كان حينا نظيفا .. و جميلا ويضاء ليلا بمصابيح الغاز التي يشعلها (عفريت الليل بسبع رجلين ).. فتعطي ضوءا شاعريا .. يتناسب مع رائحة الفل و الياسمين المزروع في الشبابيك و الحدائق .. و أصوات دقات البيانو القادمة من مكان مجهول .. مختلطة بضحكات السيدات و الأطفال .. لتعرف أنك في حي السكاكيني في منتصف خمسينيات القرن الماضى .. ( أطلت عليكم .. نكمل حديثنا باكر )