مفيد فوزي
تجربتى.. نمطًا!

وأدخل فى الموضوع وأسردها من ذاكرتى التى أحمد الله أنها مازالت حاضرة ولم يطلها الصدأ!

كنت فى طفولتى أرى أبى وأمى يتبادلان صفحات «الأهرام» بعد أن قرأ كل منهما بعناية صفحة الوفيات. وأتذكر مقولة لكامل الشناوى يقول فيها: «من لم ينشر الأهرام نبأ وفاته لم يمت»!.

وكنت ألاحظ أن قراءة صفحات «الأهرام» تستغرق وقتًا. وثبت فى رأسى ويقينى أن «الأهرام» مصدر المعلومات. وواتتنى الفكرة، لست أدرى كيف ولماذا؟ خصوصًا أن ليس بين أسرتى من احترف الصحافة، فمعظم أفراد العائلة «مآمير ضرائب» ومحاسبون!

المهم، قررت أن أشترى بمصروفى من مكتبة مجلى فى شارع الرياضى ببنى سويف أقلامًا فلوماستر ملونة واشتريت «فرخًا» من الورق الأبيض، وكنت قد جمعت بحاستى الفضولية المبكرة بعض أخبار العمارة، وأصدرت العدد الأول من «أخبار العمارة». كان موقعه ظاهرًا، ولاحظت أنه لفت نظر السكان. كان خطى واضحًا والمانشيتات ملونة، وكانت تنقصنى الصورة! كل ما فى الأمر أنى أردت أن أكون بجريدة الحائط مصدرًا للمعلومات!! أعترف بأنى استمتعت بتعليقات سكان العمارة ومن هنا كانت البذرة. إلا أن أبى وصف ما أنجزته بـ«لعب عيال»، ويومها بكيت لولا كف أمى الحنون التى شجعتنى، وهى التى أرشدتنى لمكتبة البلدية لأستعير كتبًا للقراءة. وتحولت الاستعارة إلى عادة وكنت أخفى الكتاب المستعار فى دولاب أمى! ورغم محاولات أبى وقف لعب العيال إلا أن أمى كانت تقف معى.

فيما بعد كررت التجربة فى المدرسة الثانوية، وأتذكر أن مانشيت أول عدد كان «هذه ليست تربية يا حسين أفندى سليم»! كنت أنتقد مدرس اللغة الفرنسية حسين سليم فى عقابه للتلميذ إذا أخطأ. الضرب بالمسطرة على أصابعه! وتجمع الطلبة وكانوا سعداء بانتقاد مدرس اللغة الفرنسية، إلا أن ناظر المدرسة حينذاك وضع شريطًا أسود على افتتاحيتى!! هنا جربت الرقابة لأول مرة فى حياتى! وفى الجامعة كانت ترعى صحيفة الحائط الأميرة دينا التى صارت ملكة الأردن فيما بعد. كنت أنشر قصاصات من آراء الزملاء بخط يدهم وزاد هذا صحيفة الحائط ثراءً، كانت الصحيفة معلقة على حائط مبنى قسم إنجليزى ولمحها مرة د. رشاد رشدى فوصفها بالإنجليزية «Smart» وكانت سعادتى لا توصف ولما رويت القصة لأبى، قال بحسم: «هاتطلع مدرس»، ولما قلت: «ليه مش صحفى؟» قال بثقة: «المدرس مهنة أكثر استقرارًا»، وأضاف: يعنى هتكون أحمد الصاوى محمد «كاتب عمود ما قل ودل فى الأهرام»، ولّا تكون فرح جبران «كاتب رحلات». كانت جرعة إحباطى أكثر مما أحتمل. ولكن كف الحنان أمى أخرجتنى من هذه الدائرة وقالت لى: «اللى مؤمن بفكرة يحققها». وبدأت أبحث عن جريدة أتدرب فيها!.

وكانت رحلتى الصحفية الطويلة التى أسعدت أبى حتى إنه كان يردد أمام أصدقائنا: «أنا والد مفيد فوزى»، مما استفز دموعى. وكانت أمى سعيدة بما حققت، ولما ظهرت على التليفزيون لأول مرة دعت معظم سكان العمارة فى شبرا! كانت فخورة وقالت لى عبارة: «حطمن عليك لأنك موهوب». لا أنسى العبارة وتذكرتها بشدة يوم كتب لى محمد حسنين هيكل رسالة وأنا أنشر حوارى الطويل معه فى مجلة «نص الدنيا». كتب يقول: «أنت تعرف تقديرى لك صديقًا وصحفيًا ونجمًا من ألمع نجوم الحوار»، حتى قال: «نتطلع إلى حوار سياسى جديد أترك لك بمهارتك التى نشهد بها جميعًا.. أن تضع القاعدة الحاكمة لطبيعته وسياقه»، ولكن أمى رحلت ولحقها أبى ولم تقرأ شهادة محمد حسنين هيكل! ومازلت أكتب أكثر مما توقعت، ولما كنت مفتونًا بهيكل كنت أقلده حتى أعادنى إلى الصواب أحمد بهاء الدين الكاتب المستنير، وصار لى بفضل الله ورعايته ضابط الكل «أسلوب وطلة» أسلوب فى الصحافة و«طلة على شاشة التليفزيون».

أردت- عبر هذا السرد- أن أقدم تجربة عملية فرضتها الموهبة، فهى «القاعدة الحاكمة» على رأى هيكل.

إذا كانت رغبة الابن التمثيل فلا نصادر رغبته، فقد أنتجت جمعية التمثيل فى المدرسة نجومًا كبارًا. وإذا أراد أن يذهب لمعهد يختبر حجم موهبته فلا نصادر الرغبة. إذا أراد الابن أن يلتحق بأشبال ناد كروى فلا نصادر الرغبة ونحترمها. إذا أرادت الابنة دراسة الطب وليس الهندسة مثل والدتها، فلا نصادر رغبتها ونساعدها، لأنها لو صارت مهندسة وهذا ضد طبيعتها ستعيش مرارة مزمنة! لو أرادت الابنة دراسة الباليه فمن المهم أن تشجعها بدلًا من الحرب والسخرية من رغبتها. لقد صارت الراقصة الشعبية الشهيرة فريدة فهمى أيقونة فى عيون جيلها والأجيال اللاحقة. وإذا كان للابن رغبة فى التجارة فلا نسخر منه ونحترم رغبته. بل لو كانت ابنتك تحلم بالمعهد العالى للتمريض فلا تصادر رغبتها. إننا جميعًا «ميول ورغبات» فلا نصادر ميلًا أو رغبة. إن علم النفس يقول إن الميل أو الرغبة يولد معنا ونغذيه دون أن ندرى. فإذا كبرنا وكان «العمل هو رغبتنا» كانت السعادة. ما أجمل أن يعمل إنسان «ما يحبه» وما أشقى إنسان «مفروض عليه العمل»!.

إن الدول التى حققت فى تطورها الإدارى شوطًا كبيرًا ثبت أن ٩٠٪ من العاملين «يذوبون حبًا» فى أعمالهم، وثبت أن «المتورطين فى عمل ما» نسبة الناتج صفر! إنها قضية محورية عنوانها مدى الملاءمة والتوافق بين العاملين ورغباتهم. أعرف مذيعًا من جيلى «نبيل بدر» عندما عرف أن وزارة الخارجية تطلب موظفين جددًا، ذهب على الفور ونجح فى الاختبارات الشخصية وصار سفيرًا ناجحًا. إن الإعلام كان محطة، لكن نواياه كانت العمل كسفير فى الخارجية! احترموا رغبات الأبناء فى رسم مستقبلهم. لا تصادروا رغباتهم. لا مجال للمقارنة بين الأجيال، فلكل جيل رغبات مختلفة، وليس بالضرورة أن يكون ابن المحامى محاميًا، وإن كان الوسط والمناخ يفرضان الواقع.

إن الموهبة موصل جيد لتحقيق الحلم والهدف، وبحجم مواهبك ومهاراتك تتحقق الأحلام، أيها الآباء احترموا رغبات الأبناء ولا تسخروا منها!.
نقلا عن المصرى اليوم