بقلم  فيفيان سمير

بعد أكثر من عشرين عاما من زواجي، وجدت نفسي أشتاق لجلسة هادئة مع حبي الأول، تلك السيدة التي عشقتها صبيا وشابا ورجلا ناضجا، وارتويت من شبابها حتى الثمالة، أفتقدها بشدة رغم لقائتنا العابرة، فأنا أحتاج لجلسة خاصة تجمعنا وحدنا، كما كنا سابقا، بعيدا عن أعين كل من يعرفنا، لا أسمع صوتا سوى صوتها، لا أنظر سوى وجهها، أستمتع بنظرات الحب الغامر، التي تفيض من عينيها وتداريها ونحن بين الناس، لكنى ألمحها وأعرفها جيدا، أشتاق لجلساتنا في الليالي المقمرة، ورأسي ملقا على صدرها، نلتحف السماء ونلامسها مع صوت فيروز الذي نعشقه معا، يكفي أنى تركتها وحيدة بعد أن عشقتني وحدي، بعد أن ذابت وتلاشت من أجلى. 

 

جاءها صوتي يداعب قلبها الذي يهفو إلي، ويحلم بي ليل نهار، تنتظر مكالماتي المتباعدة بشغف، تشتاق لسماع صوتي لكنها لا تخبرني، تفتقدني بشدة لكنها تعرف مسؤولياتي الكثيرة، ولا تريد أن تقاسم زوجتي وأولادي ما يتبقى من وقتي، أعلم أني حبيبها الذي لم تعرف غيره، منذ أكثر من خمس وثلاثين عاما، حتى بعد أن تزوجت وأنجبت وأصبح لي حياتي بعيدا عنها، ظلت لا تعرف رجلا غيري. 

 

جاءها صوتي بدعوة عشاء ليوم عيد ميلادها بعد ثلاثة أيام، لم تصدق، كاد قلبها يتوقف فرحا وهي تعيد علي السؤال مرات ومرات "هنخرج أنا وأنت لوحدنا؟ هنسهر ونحكي ونسمع موسيقى لوحدنا؟" وأجيبها في كل مرة "أيوه أنت وحشاني قوى ونفسي أشبع منك لوحدنا" وتعود تذكرني "مراتك هتزعل، هي أولى وأولادك هيزعلوا" فأجيبها " مراتي تعلم جيدا أنك حبي الأول، الذي لن أنساه وإن كنت أخترتها هي دونه" واؤكد عليها " سأمر عليك في السابعة لا تنسى موعدنا". 

 

تنسى؟ كيف تنسى؟ قد تنسى نفسها ولا تنسى موعد لقاء روحها، الموعد الذي حلمت به وإن كانت لم تتوقع تحقيقه لسنوات طوال. 

 

جاء اليوم الموعود، استيقظت مبكرا جدا بكل نشاط، كانت قد أعدت الثوب الذي سترتديه والحذاء والحقيبة، حتى العطر الذي أعشقه عليها، أخبرت كل صديقاتها أنها ستسهر الليلة مع حبيب عمرها، أنه هو الذي يفتقدها ويود قضاء وقت معها، وستحكى لهم عن سهرتها غدا، فرحتها تطير بها ولا تستطيع الانتظار، استعدت وتزينت وتعطرت قبل موعدنا بوقت كبير، ظلت ترقب الطريق من شرفتها حتى وصلت فأسرعت لتلقاني. 

 

صعدت إليها، كانت تقف بالباب، انحنيت أقبل يدها، فتحت لها باب السيارة وأجلستها إلى جواري وهي تشعر بكل الفخر، صحبتها لمطعمنا المفضل الذي طالما ارتدناه سويا، دخلت واضعة ذراعها بذراعي كمن تخبر العالم "أنه مازال حبيبي، مازال لي ". 

 

أمسكت بقائمة الطعام، أعرف جيدا طلبها المفضل ، طلبت الطعام والتفت إليها، فوجدتها تحتضني بعينيها وتبتسم، أعرف جيدا سر ابتسامتها، فعلى مدار عمري، كما أذكر، كانت هي دائما التي تطلب لي الطعام، وتطعمني بيديها حتى وأنا رجل، هذه أول مرة أقوم أنا بهذا الدور، فزدت لها بقولي "وهأكلك بأيدى كمان زى معملتى معايا طول عمري"، سمعت ضحكتها التي قفزت، بعد غياب، على شفتيها المجعدتين وأنارت وجهها الذي شاخ. 

 

تحادثنا وطال حديثنا إلى ما بعد منتصف الليل، لم يغلبها النوم كما كنت أتوقع، فأنا أعرف أنها لم تعد تقوى على السهر، لكنها ظلت في قمة نشاطها، عندما أوصلتها لمنزلها بادرتني بقولها "الليلة القمر بدر" فأجبتها "أريد أن أنام ورأسي على حجرك في بلكونتنا كما كنت أفعل ... موافقة؟" تعلقت برقبتي كطفلتي، غير مصدقة وقالت "ليلة من ألف ليلة وليلة، أوافق طبعا، وأوافق أن نكررها، لكن المرة القادمة العزومة على حسابي". 

 

في صباح اليوم التالي كانت تنام في سلام، وجهها مبتسم، وقد عاد لجمال شبابه، لكن الروح غادرت، وكأنها اكتفت من الحياة بتحقيق حلمها المسحور، بليلة تحتضنني فيها لأخر مرة وترحل. 

 

في يوم عيد ميلادي فجأت بدعوة عشاء مدفوعة لشخصين، من نفس المطعم الذي كنا فيه، معها خطاب بخط يد أمي: " أردت أن أخبرك أنى لم أسعد في حياتي قدر سعادتي ذلك اليوم، أردت رد العزومة وشكر زوجتك، بدعوتكما على حسابي يوم عيد ميلادك، الذي كنت أشعر أنى لن أكون موجودة فيه، فدفعت الحساب مقدما يوم كنا سويا، لكنى معك وحولك في كل لحظة سعادة تعيشها، في كل متعة كنا نتقاسمها، في كل الأشياء التي أحببناها سويا واستمتعنا بها معا، ستذكرني وتبتسم كلما مارستها، ولن تكف عن فعلها". 

 

غلبتني دموعي، لكني طويت الخطاب وابتسمت، نعم مازالت معي.