خالد عكاشه
جذور الصراع الدائر الآن في أثيوبيا، والتفاعلات العديدة التي جرت بعد رسوخ تلك الجذور، يجعل النظر إلى إعلان أديس أبابا استقرار حده القتال ودخول قواتها "ميكيلي" عاصمة اقليم التجراي، محل تشكك على الأقل في جانب اعتبار هذا الدخول يمثل كلمة النهاية، لهذه الحرب التي اندلعت بين الحكومة الفدرالية و"الجبهة الشعبية لتحرير تجراي". فالإعلان في حد ذاته؛ صادر عن أديس أبابا وحدها، في حين ضرب على الإقليم حالة عزلة شاملة عن العالم، منذ اندلاع القتال قبل نحو شهر، حيث قامت قوات الجيش الاثيوبي بقطع كافة وسائل الاتصال الهاتفي والشبكي عنه، وامتد ذلك للكهرباء والخدمات الأساسية الأخرى. كما بدت أيضا من الأحداث على الأرض أن قيادات الجبهة نفذت هناك ما يشبه الخروج التكتيكي، باتجاهها اللجوء إلى الجبال للاحتفاظ بالقيادات الميدانية التي لم تخسر منهم أحد حتى الآن، وفي نفس الوقت تجنب عاصمتهم وبنيتها عملية التدمير الذي كانت تتهيأ له قوات الجيش الأثيوبي.
 
الذي يرجح تلك المعطيات؛ أن قادة الجبهة تركوا وراءهم بعض الدبابات وقطع المدفعية، في الوقت الذي حرصوا أثناء الانسحاب نحو الجبال على نقل كافة أسلحتهم الخفيفة والمتوسطة إلى هناك. وأيضا ثمة رسالة عسكرية أخيرة نفذتها الجبهة قبيل خروجهم من العاصمة بساعات، تمثلت في اطلاقهم لدفعة من (6 صواريخ) باتجاه العاصمة الإرترية أسمرة، لتكون ثاني دفعة اطلاق تصيب الجارة القريبة، بعد الأولى التي أصابت مطارها الرئيسي بعد أسبوع من اندلاع القتال. هذه الرسالة الأخيرة قبل الخروج، تحمل في جزء منها بعض من أسباب التراجع الذي قررته الجبهة، فهو يعكس قناعاتها التي تشكلت من أحداث الميدان، بأن هذه المرة لن تكون في مواجهة الجيش الإثيوبي وحده، بل إن إريتريا كشفت عن توجهاتها منذ اللحظة الأولى بأنها ستكون حليفا مؤكدا لقوات وتوجهات رئيس الوزراء آبي أحمد، بالنظر لعديد من الإجراءات التي تكشف منها أن أسمرة ضالعة في مخطط الهجوم عليها. فقد سمحت الأخيرة لقوات الجيش الأثيوبي، بالقيام بعمليات التفاف على الإقليم بمحاذاة حدوده مع إريتريا بتوغل لعشرات الكيلومترات غض الطرف عنه عمدا، وكذلك قيام المستشفيات في أسمرة باستقبال الجرحى من قوات أديس أبابا، دون جرحى الإقليم ونازحيه الذين وصلوا للمئات في غضون أيام معدودة.
 
كلتا الدولتان نفيتا هذا الأمر في تصريحات خجولة غير قاطعة، لكن المؤكد أن قادة "الجبهة الشعبية لتحرير تجراي" خرجوا بالفعل من العاصمة "ميكيلي"، هربا من الوقوع في "كماشة" توافق أثيوبي أرتيري على تحطيم قدرات إقليم "تجراي". لهذا التوافق الذي يدرك الـ"تجراي" بواعثه كثير من المؤشرات، لم تخطئها عيونهم المدربة على قراءة ما يدور بجانبي الحدود، حيث كانوا في القلب من الصراعات المدمرة التي نشبت عامي 1998 و2000، بعد أن انقضى شهر العسل بين الحليفين القدامى "الجبهة الشعبية لتحرير تجراي" و"الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا"، قاد الأولى "ميليس زيناوي" والثانية كانت بقيادة "أسياس أفورقي"، ونجحا في الإطاحة بنظام "منجستو هيلا مريم" 1991 بعد 17 عام كاملة من الصراع، على إثر هذا النجاح منح أفورقي جائزته من الغنيمة، بالاعلان عن استقلال أريتريا 1991 مع التعهد ببعض الالتزامات الرئيسية لنظام زيناوي والدولة الإثيوبية، لها علاقة بالأمن والدفاع وتأمين استخدام الموانئ الأرترية للدولة الحبيسة، فضلا عن اتفاقات تفضيلية للتجارة وتوحيد العملة وغيرها. على خلفية إثارة "أسياس أفورقي" لاشكالية ترسيم الحدود بين البلدين، سرعان ما توافرت الذريعة للانقلاب على تلك الالتزامات، لينقلب كلا الرئيسين لحالة عداء تاريخي وصفها زيناوي طوال سنوات حكمه، بأن أرتريا وجهت لأثيوبيا "طعنة غادرة" في الظهر، في الوقت الذي كان ضباط الجيش الأثيوبي يصفون "همسا" هذه الحروب المتتالية بين الجارتين، بأنها حرب زيناوي والتجراي مع أفورقي وأريتريا!

هذه المرة؛ ينظر إلى ما يقوم به رئيس الوزراء آبي أحمد منذ أربعة أعوام وأسماه نهجا اصلاحيا، كونه لا يعدو حزمة من السياسات العرقية ذات البعد "الثأري" ضد قومية تيجراي، خاصة بعد أن قرر حل "تحالف الجبهة الديمقراطية لشعوب اثيوبيا" الذي كانت تسيطر عليه "جبهة التيجراي"، وأسس بدلا عنها "حزب الازدهار" بغرض الانقلاب على الهوية الفدرالية لإثيوبيا الدولة متعددة القوميات. انتقل المشهد الأثيوبي بالطبع نقلة نوعية بعد توقيع اتفاقية السلام والصداقة مع إرتريا يوليو 2018، حيث ساهم ذلك في فوز آبي أحمد بجائزة نوبل للسلام، في حين رفعت مجموعة من العقوبات الدولية التي فرضت على إريتريا منذ العام 2009. لاحظ الكثيرون ومنهم التجراي بالضرورة، أن ما تلا ذلك كان نسج صداقة غير رسمية وشخصية للغاية بين أبي أحمد وأسياس أفورقي، في الوقت الذي لم تسهم الاتفاقية إلا بتقدم مؤسسي ضئيل في العلاقات بين البلدين.

لاشك أن الرئيس الأريتري يحمل ضغينة كبيرة للتجراي، وتعمقت خلال السنوات الأخيرة، عندما برزت الجبهة كمعرقل لتنفيذ اتفاق السلام وإحراز تقدم في ترسيم الحدود، لذلك رفض نظام أفورقي انخراط القيادات التيجرانية في المناقشات الحدودية الدولية، والتي يشعرون أنها تتم بشكل صارم بين الحكومة الفيدرالية التي تم تهميش جبهة تحرير تيجراي منها وإريتريا، فضلا عن ايدلوجية أفورقي الراسخة التي تنظر إلى الفدرالية باعتبرها "فوضى عرقية" تناهض مركزية السلطة. وهنا يتلاقى الصديقان مرة أخرى، فتحالف آبي أحمد وأفورقي لا يأتي من فراغ أيدلوجي، بل أن صميم ما يستشعره الداخل الأثيوبي أن إصلاحات آبي أحمد  تبتعد عن الفيدرالية المتعددة الجنسيات الموعودة، وهو ما جعل القوميات الأخرى يسودها اضطراب كبير خشية مصالحها المهددة، في تلاقي الزعيمان على هذا المخطط الذي قد يودي إلى ضرب استقرار منطقة القرن الإفريقي برمتها، حيث تعيش على بحيرة مضطربة من الاثنيات والعرقيات، التوافق بينهم على درجة عالية من الهشاشة. وهناك من يرى أن "أسياس أفورقي" يخوض هذا الفصل من النزاعات بالانحياز الشكلي لنظام أديس أبابا، في حين يضمر الكثير من أسباب صناعة التدمير الداخلي لهذه الدولة التي يحمل لها هو الآخر ثأر عميق، يجعل القادم أكثر خطورة وأبعد ضبابية من أمكانية الرؤية عما ستسفر عنه فصول أخرى قادمة لا محالة.
نقلا عن الدستور