الأنبا إرميا
كان الحديث عن آثار الحروب المدمرة للمجتمعات وللبشر بالمقالة السابقة، وحاجة الإنسان وبيئته إلى السلام من أجل الحياة. فالتاريخ يعلم قيمة السلام على مستوى الحضارات والأفراد؛ إذ وجود السلام يحقق استمرارية الثقافات المتنوعة، فى حين ثقافات عديدة اندثرت وأمست طى النسيان لما عانته شعوبها من نزاعات وحروب: كشعوب «بويبلو» القديمة، وشعب «الأناسازى» الذى اختفى ويُظن أن سبب اختفائه وجود صراعات داخلية عنيفة؛ لذٰلك لن يمكننا العيش إذا تصارعنا، ولا استمرار وإبداع إذا تحاربنا.

هذا ما جعل العالم يفكر فى أهمية السلام؛ ولذا جاءت الجوائز الدُّولية للسلام بأهمية ملحة فى حياة الأفراد والمجتمعات والشُّعوب: ومنها جائزة «نوبل للسلام» السنوية التى أوصى بها «ألفريد نوبل» ومُنحت أول مرة عام 1901م، وجائزة «غاندى للسلام» وتمنحها الحكومة الهندية منذ 1995م على اسم «ألمهاتما غاندى» قائد بلاده إلى الحرية دون رصاصة واحدة، وفى العالم العربى نجد جائزة «الإمام الحسن بن علىّ للسلم الدولية»، وجوائز أخرى فى عدد كبير من دول العالم.

أما عن تحقيق السلام، فمن المعروف أنه لا يتأتى بالشعارات أو بصوغ كلمات ينادى بها فى اللقاءات والمؤتمرات والكتب، بل هو إيمان حقيقىّ داخل كل نفس تُدرك حاجتها الماسة إلى تحقيقه. نعم، السلام يبدأ من داخل الإنسان، ثم ينتشر إلى كل من حوله؛ لذا على العالم أن يُدرك أن استعادة السلام الذى فقده هى مسؤولية كل فرد، وتحتاج بشدة إلى صدق مع النفس، وتحمل مسؤولية صنعه. وهكذا، ينطلق السلام من أعماق البشر أولاً. وقد عبّر عن ذٰلك الشاعر الأديب الإنجليزىّ «رالف والدو إمِرسُن» قائلاً: «لا شىء يمكن أن يجلُِب السلام لك غير نفسك. لا شىء يمكن أن يجلُِب السلام لك غير انتصار المبادئ»؛ كذٰلك قيل فيه: «يبدأ من داخل كل واحد منا. عندما يكون لنا السلام الداخلى'> السلام الداخلى، فسيكون بوسعنا أن نكون فى سلام مع من حولنا»؛ فمن يحاول أن يقدم السلام وهو يفتقده فى أعماقه، فلن تبوء محاولاته إلا بالفشل.

إن أولى خطوات السلام هى قدرة الإنسان فى اكتشاف أعماقه وإدراكه احتياجه السلام، بتعبير آخر: فهمه لاحتياجه إلى تكوين نوع من الوفاق والانسجام الداخلى والهدوء؛ كى يتمكن من عيش حياة هادفة بناءة يستطيع بها استخدام قدراته وإمكاناته التى وُهبت له من الله وتميز بها. وكما يُقر العلماء والباحثون، فإن لعقل الإنسان إمكانات هائلة لم تُكتشف جميعها بعد، وتحتاج أن تبتعد عن الأزمات أو الحروب أو الضغوط الشديدة كى تتأجج قوتها، فالطريق نحو الضعف والتشتت مفروش بالمخاوف والانزعاجات. أمّا حين يتمتع الإنسان بالسلام الداخلى، فإنه يشعر بنوع من الراحة التى تمكنه من الهدوء الذهنى؛ فيستطيع التفكير منطقيًّا وإيجابيًّا، مستخدمًا ما لديه من طاقات إبداعية تجعله قويًا من الداخل لا يهتز بسهولة. ويُعد الإنسان القوىّ داخليًا هو الأقدر على إيجاد حلول ناجحة لما يعترضه من مشكلات وعقبات وتحديات من العالم الخارجى، كصمود الصخور الثابتة أمام الأمواج العاتية فتتكسر عليها، لٰكن فاقدى السلام تحملهم أمواج الاضطرابات حيثما تشاء.

إن السلام الداخلى'> السلام الداخلى هو رحلة الإنسان إلى أعماق نفسه، حيث يكتشف مكنوناتها وما تحمله من أفكار وأعمال نحو الله وذاته والآخرين. وكما ذكرنا سابقًا، فإن مصدر السلام الحقيقىّ هو الله؛ لذٰلك تُعد عَلاقة الإنسان بخالقه أمرًا أساسيًّا. وحين يصنع الإنسان شرًّا يبتعد عن الله؛ ومن ثم يفقد سلامه، فيحيا كبحر مضطربة أمواجه، لا يدرى ما به من قلق وتوتر ينعكسان عليه والآخرين. و... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.

* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم