في مثل هذا اليوم 8 ديسمبر 1897 توفي الإمام الشيخ محمد العباسي أول من جمع بين منصبي الإفتاء ومشيخة الأزهر، وهو الإمام الشيخ محمد بن محمد أمين بن محمد المهدي العباسي الحنفي ولد بالإسكندرية عام 1827 وأقام فيها حتى الـ12من عمره وفيها حفظ نصف القرآن الكريم، ثم حضر للقاهرة وحفظ النصف الثاني منه في الأزهر وبعد عام واحد التحق بالأزهر الشريف ودرس العلوم الشرعية واللغوية على مشاهير علمائه منهم الشيخ السقا والشيخ خليل الرشيدي.

وفي الحادية والعشرين من عمره قلده إبراهيم باشا منصب الإفتاء وانعقد لذلك مجلس في القلعة حضره حسن باشا والشيخ العروسي وغيرهما من العلماء والوجهاء، وكان المهدي يجمع بين الإفتاء والتدريس وكان يتمتع بذكاء حاد وبتحصيل وافر من العلم ولقد كانت ولايته منصب الإفتاء دافعًا له على القراءة والبحث والدرس حتى بلغ مكان الصدارة بين العلماء وأصبح جديرًا بمنصب الإفتاء مع التزامه بالأمانة والعفة والدقة فاشتهر بين الناس بالأمانة والحزم وعدم ممالأة الحكام.

وفي سنة 1870م تولى مشيخة الأزهر وجمع بينها وبين وظيفة الإفتاء وذلك في احتفال بهيج يليق باحترام هذا المنصب أقامه له الخديوي آنذاك، وخطا الأزهر في عهد الشيخ المهدي خطوات واسعة على طريق التقدم والازدهار فقد أعاد رواتب العلماء التي قطعت في عهد الأمير عباس وصرفها لمن بقي منهم على قيد الحياة ومن مات منهم جعلها لورثته الطالبين للعلم والمدرسين وكانت هذه الرواتب تصرف من خزينة الدولة وأصبح لهذا العمل الطيب من الشيخ المهدي أثره البالغ في نفوس العلماء فأحبوه والتفوا حوله.

واستصدر المهدي قانونًا لعقد امتحان لكل من يريد التصدي للتدريس في الأزهر ووضعت لذلك المناهج والكتب ويمتحن الطالب أمام لجنة كبيرة من العلماء بجانب سمعة المدرس الطيبة وحسن سلوكه والشهادة له بذلك من شيوخه وإذا نجح الطالب تكتب له شهادة وترفع للخديوي للتوقيع وتخلع على المدرس خلعة ويؤذن له بالتدريس في الأزهر، وألقت هذه النهضة أشعتها على الأزهر وعلى علمائه فقد ظهر جمال الدين الأفغاني وغيره الكثير وكذا الطلاب من بعده.
لم يتجاوب الشيخ المهدي مع ثورة عرابي فعزل عن المشيخة وحل محله الشيخ الأنبابي وبقي الشيخ المهدي مفتيًا ثم استقال أخيرًا من الإفتاء ومن المشيخة جميعا، ويعتبر الشيخ الإمام المهدي العباسي أول حنفي يتولى مشيخة الأزهر وأول من سن قانون امتحانات التدريس بالأزهر وأول من جمع بين منصبي الإفتاء والمشيخة في وقت واحد وهو أول من عاد إلى شياخة الأزهر مرة أخرى بعد عزله عنها من غير استقالة مسبقة ويعتبر كل طلاب الأزهر في عهده هم طلابه وتلاميذه.

كان الشيخ المهدي صارما في التمسك بالحق والدفاع عنه وكان شديد المحافظة على كرامته وكرامة منصبه ولم يهزه أي تهديد ولم يحاب بدينه وأصبح مرجعًا رسميا للحكومة في الإفتاء بعد مناقشة طويلة أمام الخديو ومجلس العلماء وقد ولي المهدي الإفتاء نحو اثنين وخمسين عاما وتقلد كرسي المشيخة ثمانية عشر عامًا وكان دقيقًا في اختيار القضاة الشرعيين ورجال الإفتاء ويتحرى فيهم النجابة والذكاء والتقوى والصلاح والعلم وكان يحميهم من تدخل الحكام ويشد أزرهم.

وألفت الحكومة لجنة لاختيارهم من وزارة الحقانية "وزارة العدل" وكان الشيخ يستشار في عظائم الأمور ومعضلاتها ولم ترتق إليه أي شائبة أو شبهة أو خطأ وكان يراجع الفتوى مرارًا وتكرارًا ويدرس الحكم دراسة علمية دقيقة حتى أصبحت لديه ملكة ملهمة في الإفتاء وبصيرة ناقدة في دقائق الشرع.
للشيخ المهدي مصنفات كثيرة لم يطلعنا التاريخ عليها، منها: الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية، وتضم علما غزيرا وثروة فقهية طائلة توجد بالقاهرة في ثمانية أجزاء كبيرة وتعتبر من أهم المصادر في الإفتاء، رسالة في تحقيق ما اشتهر من تلفيق (فقه حنفي)، رسالة في مسألة الحرام على مذهب الحنفية".