بقلم : نجيب محفوظ نجيب
كان الجو شديد البرودة، و الهواء يكاد يقتلع الأشجار من جذورها، و بدأ المطر يتساقط بغزارة، حاولت أن احتمى بمدخل أحد البيوت، و بينما أقفف انتظارا أن ينتهى هطول المطر ، سمعت صوت بكاء، بدأ الصوت يعلو ثم يعلو، فلم أستطع الإنتظار، تحركت بحذر و بطء نحو مصدر الصوت، و عندما اقتربت وجدت طفل صغير يجلس على أحد الأرصفة و يضع شنطة المدرسة إلى جواره و يجهش بالبكاء.
 
أقتربت منه بهدوء لكى لا يفزع منى، و همست إليه : ما الذى يبكيك و لماذا لم تذهب إلى المدرسة ؟ أجابنى : لا أريد أن أذهب للمدرسة. سألته : لماذا ؟ أجاب و هو لا يزال يبكى بكاءا شديدا : لا يوجد أحد يحبنى، ليس لى أصحاب. هدأت من روعه و مدت إليه يدى بمنديل لكى يكفكف دموعه. و بعد أن هدأ قليلا، طلبت منه أن يفسر و يشرح ما قاله لى.
 
بدأ يحكى بصوت منخفض يملأه الحزن العميق : منذ أن ألتحقت بالمدرسة و المعلمون يتهموننى بالكسل و الغباء و الفشل. حتى الأطفال لا يريدوننى بينهم، كل مجموعة منهم قد أنغلقت على نفسها و لا تريد أن تستقبل أحدا جديدا. أحاول أن أرضى المعلمين و الأطفال مرارا و تكرارا و لكن دون جدوى. و يتعمد البعض منهم إهانتى و السخرية و الاستهزاء من كل فعل أقوم به أو أقدم عليه. أنا وحيد وسط هذا العالم القاسى الموحش.
 
وجدت دموعى و قد غلبتنى، فلم أستطع أن أسيطر على مشاعرى. لم يكن يبكينى قديما سوى بكاء  سيدة أو رجل مسن. أما أن تنساب دموعى أمام بكاء طفل فهذا معناه أنه قد أثر فى تأثيرا حقيقيا و صادقا.
 
جلست إلى جواره و أخذت أتأمل و أفكر فيما قاله لى بهدوء، و تسائلت : ما الذى فعله هذا الطفل لكى يستحق عليه  هذه المعاملة اللا إنسانية.
 
لن أردد كلمات مثل التعليم رسالة قبل أن يكون وظيفة و لن أكيل الإتهامات.
 
فالكل يعرف مسئوليته و الجميع يعلم من الجانى و من الضحية. 
 
و لكننى سوف أطلق صرخة فى وجه المجتمع الذى يصر أن يغمض عينيه و يصم أذنيه : أنتم تقتلون الأطفال.
 
و كل من يرى و يسمع و يقبل و يصمت و يلغى ضميره هو شريك فى جريمة القتل.