د. محمد طه
سنة 2007 اتعرض فيلم جميل جداً اسمه Lars and the Real Girl – لارس والفتاة الحقيقية.. لارس كان شاب انطوائى جداً، فاجأ أهله بإنه اشترى دمية على شكل بنت شابة كبيرة زيه.. كان بيكلمها ويحكيلها.. يسمعها ويهتم بيها.. يروح معاها للدكتور لو حس انها تعبانة.. وكان بينيمها جنبه على السرير.. وكأنها شريكة حياته.. لارس استغنى بيها عن كل الناس.. الفيلم كان مؤلم لأقصى درجة..

سنة 2013.. اتعرض فيلم أجمل وأكثر درامية وألما اسمه Her.. بطل الفيلم هنا عمل علاقة ارتباط كاملة مع صوت.. أيوه.. مع صوت مخلق اليكترونيا ليشبه أصوات البشر.. صوت واحدة بتكلمه وتفهمه وترد عليه.. تصحيه من النوم وتفضل معاه طول اليوم (باستخدام سماعة صغيرة فى ودانه) لغاية ما ينام بالليل.. البنت دى -أقصد صوت البنت دى- كانت بالنسبة له حقيقية أكثر من أى حد فى حياته.. وانتهى الفيلم نهاية صعبة جداً..

من كام يوم.. طالعتنا المواقع الاخبارية بخبر عن لاعب كمال أجسام كازاخستانى تزوج من (دمية).. فرح ومعازيم وصور وحكاية.. الدمية مصممة بالذكاء الصناعى انها تتكلم وتسمع وتفهم وترد وتتفاعل بأقصى درجات الذكاء والحساسية.. ويمكن ممارسة علاقة جنسية كاملة معاها.. لا وكمان عاملة عملية تجميل فى وجهها..

غريب الكلام ده.. مش كده؟
طيب اهدى كده واصبر.. ماغريب الا الشيطان..

بص لنفسك كده..
بص للموبايل اللى فى إيدك.. وقولى هو فى إيدك من كام ساعة.. استخدمته كام ساعة النهاردة.. كلمته وكتبت عليه وشوفت وسمعت منه قد إيه مقارنة باللى قولته وسمعته لأى حد من الناس اللى عايشين معاك فى نفس البيت.. نفس الأوضة.. نفس السرير أحياناً..

آه انت عايز تكلمنا عن أضرار استخدام الموبايل وانه بيمنع التواصل وكده..
فى الحقيقة لأ.. ولأ خالص..

أنا عايز أكلمك عن وجع العلاقات الإنسانية'> العلاقات الإنسانية.. وخطرها.. وصعوبتها.. والكلام الجاى جد.. وجد جداً..

أكتر شئ موجع فى الحياة.. هو العلاقات الإنسانية'> العلاقات الإنسانية..
أكتر شئ خطر فى الدنيا.. هو العلاقات الإنسانية'> العلاقات الإنسانية..
أكتر شئ صعب فى الوجود.. هو العلاقات الإنسانية'> العلاقات الإنسانية..

ليه؟
علشان القرب من حد بشكل حقيقي.. بيحمل داخله احتمالات الفقد..

وحب حد بصدق وبكل قلبك.. بيأتى معه بخطورة الذوبان فيه والتلاشى داخله..

والاعتماد على وجود حد فى حياتك بشكل يشبع احتياجاتك (خاصة النفسية) ويسكت أنينها.. بيهدد بوضع ضعفك وعجزك وقلة حيلتك أحياناً فى العراء التام بدون غطاء.. بمجرد بُعد أو زعل أو اختفاء هذا الشخص..

القرب موجع..
الحب خطر..
اشباع الاحتياجات مؤلم..

أول درس اتعلمته فى (سيكولوجية المجموعات) هو ان أول ما يحدث داخل العقل الباطن لأى فرد داخل أى مجموعة هو إنه بيشوف ازاى ينفصل عن هذه المجموعة، ويبعد عنها، ويعيش لوحده.. حتى لو كان بعقله الظاهر بيعمل ويقول غير كده..

التواجد وسط ناس مسئولية..
عمل علاقات مع بنى آدمين مخاطرة..

ده ممكن يجرحك.. ده ممكن يستغلك.. ده ممكن يخونك..

كلمة واحدة ممكن تدمى قلب مُحب.. نظرة واحدة كفيلة بتشويه علاقة شخص بنفسه هو شخصياً..

اهمال واحد قادر انه يُميت روح كانت مليئة بالحياة..

طبعاً على الجانب الآخر فيه روعة وجمال وشبع وفرحة وطمأنينة و... و.... فى كتير من العلاقات الإنسانية'> العلاقات الإنسانية.. بس أنا باتكلم على اللى بيهدد كل ده..

فيه ناس بتحب القطط والكلاب أكتر من حبها للبشر.. لأنهم مش بيؤذوا ولا بيهينوا ولا بيخونوا..

فيه ناس بيعملوا علاقة مع نبات.. لأنه مش بيستغل ولا بيخذل ولا يستندل.. ولا بيقول لأ (على رأي ليون- ١٩٩٤).

فيه ناس بتعمل علاقة مع مكان.. بألوانه وحيطانه وسقفه.. وماتعملش علاقة بنفس القوة مع أصحاب أو ساكنى نفس المكان..

ده فيه اضطراب نفسي أول أعراضه اسمه (الخوف من الهجر) Fear of Abandonment.. تصور؟
حد بيخاف يقرب أحسن يتوجع من القرب.. فيبعد.. ويخاف يبعد أحسن يموت من الوحدة.. فيقرب..  حد عايش طول حياته على الخط الحاد الجارح بين القرب والبعد.. مش عارف يعمل علاقة حقيقية واحدة لآخرها.. مرة يُغري بالقرب.. ومرة يصد بالبعد.. مرة يتحرق من شدة القرب.. ومرة يحرق من شدة البعد.. مرة يموت من الاحتياج.. ومرة يموّت غيره من الحرمان..

عاوز أقولك ان ده مستقبل البشرية.. هو ده بالظبط.. مش اضطراب ولا حالات فردية.. ده هايبقى حالة عامة سائدة بين البشر..

ليه؟
علشان اللى عندهم شجاعة القرب.. رغم وجعه.. عمالين يقلّوا..
واللى عندهم صدق الحب وإخلاصه.. رغم خطورته.. قربوا ينقرضوا..
واللى مستعدين ياخدوا مخاطرة الحياة كما هى.. بما فيها من حيرة ولخبطة وألم وفقد وموت.. صاروا شتاتاً..

اللى قادرين يقربوا بجد.. ويحبوا بجد.. ويعملوا علاقات انسانية حقيقية خالية من أى ألعاب نفسية.. تعبوا.. وملّوا.. وقربوا ييأسوا..

أيها السادة..
العلاقات الإنسانية بتندثر.. بتتلاشى.. بتنقرض..

ما هو طالما القرب بيوجع.. يبقى على إيه.. خلينا بعيد.. أو خلينا نقرب شوية.. ونبعد شوية..
وطالما الحب خطر.. بلاش منه.. مالها الأميبا

كائن وحيد الخلية..
وطالما الشبع ممكن يبقى وراه حرمان.. يبقى خلينا جعانين أحسن..

والضحكة بقت ايموجى.. والغضب بقى ايموجى.. والاعجاب والحضن وحتى الدموع.. كلهم ايموجى..

وأمازون عملت Alexa اللى بتكلمك وتكلمها (من غير ما تجرحك) .. وأبل عملت Siri اللى بتفهمك وتفهمها (من غير ما تؤذيك).. ولسه.. ولسه.. عشرات ومئات التطبيقات اللى بتتكلم وتسمع وتفهم.. وتسمع الكلام..

وجت كورونا فتحت كل امكانات التواصل عند بعد.. وقفلت الباقى من احتمالات التواصل عن قرب..

طب والعلاقات الجنسية يا دكتور؟

لا دى خلصت وانتهت من زمان.. احنا نجحنا وبكل اصرار ومهارة اننا نحول (العلاقة) الجنسية إلى (ممارسة) جنسية تخلو من أى علاقة.. ونسينا ان العلاقة الجنسية الحقيقية هي (علاقة) بكل تفاصيل ومعاني الكلمة.. يعني فيها مشاعر، وأفكار، والتزامات نفسية وروحية وجسدية، والجنس فيها جزء مش كل.. الجنس آداة للقرب وللتواصل وللتعبير.. واحنا بطلنا خلاص الكلام ده.. قرب ايه وتواصل مين وتعبير عن إيه.. وبالتالى مابقاش يفرق كتير اذا كانت هذه (الممارسة) تتم مع جسد حى.. أو دمية شبه حية..

أحب -أخيراً- أبشركم..
خلاص..
البشر اتعلموا واختاروا السلامة (الزائفة)..
العلاقة مع جماد أصبحت أأمن..
العلاقة مع حيوان أليف صارت أكثر اشباعاً..
واللاعلاقة.. تحولت إلى علاقة..

ده بيتجوز مارجو (اسم الدمية).. وده بيحب alexa.. ودى بتفضفض مع Siri..

كانوا بيعرّفوا الإنسان زمان على إنه social being.. بس يبدو ان التاريخ الطويل ليه على الأرض غيره وبيخليه دلوقت unsocial being..

كانوا بيقولوا No man is an island.. بس اللى حاصل ان كل man بقى وبيبقى an island..

احنا داخلين على دهور من التوحد..
وقرون من الذاتية والانطوائية والتباعد النفسي والروحى..

احنا بدأنا عصر فيه:
كثير من ال(أنا).. قليل من ال (أنت)..

امسكوا فى حبايبكم بإيديكم وأسنانكم..
تبتوا فيهم لآخر نفس..
امتنوا ليهم.. اسمعوهم.. اعذروهم..

قبل ما نصحى على اليوم اللى نستغرب فيه كلمة (صاحب)، ومانفهمش فيه يعنى إيه (صديق) أو (رفيق) أو (شريك حياة).. ونقول ياااه.. كان فيه حاجة زمان اسمها (علاقات) بين البشر..