فاطمة ناعوت
المصريون طيبون. وسيبقون طيبين حتى تقوم الساعة. الخيرُ فِطريٌّ فى طبيعتنا، والدَّعةُ تسكن جوانحنا، مهما تبدّلت علينا صروفُ الدهر، وتعاقبتْ نوازلُ القدر، يظلُّ معدنُنا نقيًّا؛ يقاوم الخبثَ ويطردُ الشوائبَ التى تعلقُ بنسيجنا الطيب، بين الحين والحين، حتى يعودَ صافيًا نقيًّا. لا تصدقوا ما ترونه أحيانًا على شاشات الفضائيات وصفحات التواصل الاجتماعى مما يفعله بعضُنا فى بعضنا من ويل وسخافات. فأولئك ليسوا «بعضَنا»، بل هى آفاتٌ أصابت نبتتنا الصالحة وسكنت فيها بعض الوقت. لأن الآفاتِ لا تصيبُ إلا أطيبَ الثمر. تلك الآفات الدنسة هى الاستثناءُ الذى يؤكّد القاعدة الراسخة التى تقول: إننا طيبون. أمّا أولئك الوحوش الضارية التى تُكفِّر وتقتل وتتنمّر وتتحرّش وتسرق، فهم ليسوا وحسب غير مصريين، بالمعنى الاعتبارى، لكنهم ليسوا بشرًا. البشرية تتبرأ منهم، كما تتبرأ منهم مصرُ.

دعونى أحكِ لكم قصة وصلتنى، تؤكد إيمانى بطيبة معدننا المصرى. لا أدرى مصدر القصة ولا راويها ولا المروىّ عنه وعنها. إنما رواها أحدُهم وتواترت نقلًا، حتى وصلتنى. فقررتُ أن أحكيها لكم لنتأمل ما بها من مغازٍ عميقة.

وعلّ أجملَ ما فى تلك القصة أنها وصلتنا بلا أسماء. حتى تنسحب على كثيرين، وكثيرون فعلوا ويفعلون ما فعله هذا الرجل، وربما أكثر، دون أن يلتقطها راوٍ ليرويها لنا. وسوف أنقل لكم الحكاية بالمحكية المصرية، كما وصلتنى، حتى لا تفقد أصالتَها فتدخل قلوبكم.

يقول الراوى:
«النهارده كنت نازل مشوار فى حى المهندسين، وعايز أركن السيارة، ملقتش مكان غير أمام فكهانى فاتح محل صغير. استأذنت منه أركن سيارتى قدامه. الراجل كان بشوش الوجه، ووافق بابتسامة، وقال لى: (الأرزاق على الله). خلصت مشوارى ورجعت، فقلت بالمرة أشترى شوية فاكهة من الراجل الطيب ده. دخلت وسألته: (الفاكهة بكام النهارده؟) قال لى: (الفراولة الكيلو بـ ١٠ جنيه، والموز ب ٨ جنيه). قلت له: (طيب أعطنى ٣ كيلو موز، و٢ فراولة). وأنا واقف دخلت سيدة. البائع ابتسم وقال لها: (إزيك يا أم يوسف. إيه الأخبار؟ أولادك عاملين إيه؟) قالت له: (الحمد لله. عايشين فى نعمة بفضل الله). وسألته: (بكام الفراولة عندك النهارده؟) قال لها: ( بـ ٣ جنيه، وليكى إنتى ال ٢ كيلو بـ ٥ جنيه. والموز زيها). طبعًا أنا انزعجت وقلت فى نفسى البائع الغشاش، أكيد كده عاوز يحاسبنى على ثمن ركن العربية قدام المحل بتاعه.

لاحظ البائع انزعاج ملامحى، فغمز لى بطرف عينه وأشار لى بيده علامة: (استنى). الست أم يوسف أخدت كيلو فراولة وكيلو موز وأعطته ٥ جنيه ومشيت. وبعد ما مشيت قال لى البائع: (يا سيدى ماتستغربش. وأنا والله ما بغشك. دى ست معها أربع أولاد صغيرين. أكبرهم عنده ١٥ سنة. بيشتغل عامل فى السوبر ماركت اللى قصادى ده. وبياخد ٢٠ جنيه. وهى جوزها متوفى. وكان شغال عامل نظافة. معاشه مش بيكمل ٨٠٠ جنيه. وطبعًا مطلوب منها تأكِّل عيالها وتعلّمهم وتدفع إيجار السكن وغيره، بالقرشين دول. والأهم إنها بترفض أى مساعدة من أى حد. ولو حاولت تديها فلوس، مبترضاش تاخدها أبدًا، وتقول لك أنا مبسوطة بنعمة ربنا ومش محتاجة الحمد لله. زى ما شفتها كده دايما فاكرة نعمة ربنا. فأنا وغيرى لما بتيجى تشترى منى فاكهة، دايمًا باقول لها على أسعار بسيطة، علشان أبقا عملت خير وساعدتها إنها تِدوّق عيالها الفاكهة مرة فى الأسبوع، أو مرة فى الشهر، وفى نفس الوقت ماكسرش نِفسها لو حاولت أعطيها الفاكهة ببلاش، وأُشعرها أنها تتسول، أو حتى أعطيها بواقى الفاكهة الرديئة وأجرح كرامتها. وأقسم لك بالله يا أستاذ، اليوم إلى بتجيلى فيه أم أحمد وتشترى منى بالرخيص، ربنا بيكرمنى آخر كرم، وباكسب الضِّعف فى اليوم ده. بيبقى يوم كله بركة. لأن هى دى التجارة مع الله، ومردودها أضعاف الأضعاف فى الدنيا وفى الآخرة. وجبر الخواطر على الله يا أستاذ). وقفت أتأمل الفكهانى وعاوز آخده فى حضنى، وقلت له: (إنت أحسن من ناس كتير بتتكلم عن الفضيلة ليل نهار من غير ما تعملها. ربنا يكرمك). طلبت من الفكهانى إنى أصوره وأنشر صورته، لكنه رفض عشان الست متعرفش. وقال لى: (بس احكى الحكاية للناس يمكن غيرى يعمل كده)».

الخيرُ باقٍ فيك يا مصر، ما بقيت الحياةُ وما بقيت مصرُ.

«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ أبناءَ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم