كتب – روماني صبري 
 
كتب الراهب الأرثوذكسي أنطونيوس حنانيا، من دير القديس جاورجيوس صيدنايا بسوريا، رسالة بعنوان "الميلاد الإلهي 2020"، وجاء فيها : 
 
أن نقول بأن الرب يسوع المسيح مولود قبل كل الدهور (مزمور 7:2)، هذا يعني أننا لا نستطيع الإحتفال بهذا المولد لأنه أزلي ولا يخضع للزمن. أما أن نتكلّم عن ولادة يسوع المسيح بالجسد لأجل خلاصنا من مريم العذراء (أشعيا 14:7)، فلهذا التجسد الزمني نُعَيِّدُ. 
 
قبل ميلاد الرب يسوع، كان العالم غارقا بالفوضى والعنصرية الإجتماعية وكأنه في بور، تائها في ظلمة مخيفة أشبه بغمار مياه داكنة وعميقة (تكوين 1:1)، ووحوش البر والبحر رابضٌة لتلتقط حياة الذين أُطْفِئَتْ شموعهم آخذة إياها إلى أسافل دركات الأرض (رؤيا 13 ورؤيا 17). ولكن روح الرب فوق الغمار يرف.
 
إنها ظلمة فصل الشتاء، والناس يأخذون رجاءً من شجرة عيد الميلاد التي لا تموت بل تبقى خضراء، معطية الأمل بربيع قادم وانبعاث جديد للحياة. الشجرة ليست وثنية حسب اعتقاد البعض، إنها شجرة الحياة الفردوسية التي تُعطي أملاً في عالمٍ قاتم. البرد قارسٌ، والناس متجمهرة حول جمر النار الدافئة المملوءة من محبة ورحم حنان الأم الدافىء. في المغارة التي في أسفل الشجرة، نورٌ دافىء يعزّي القلب والوجدان، وفي أعلى الشجرة نجمٌ مضاء بأشعة النور. إنهم يتحضّرون للإحتفال بذكرى ولادة الرب يسوع المسيح بالجسد.
 
كل الكون يحتفل بهذا العيد وينسبونه للأطفال. يُحَضّرون الهدايا والمآكل الشهية، ويأخذون العطل لتجلس العائلة مع الأقارب والذين ليس عندهم أحد، حول النور الحقيقي الآتي إلى العالم لينير كل إنسان (يوحنا 9:1).
 
كم هو عدد الذين ينتبهون لشخص المسيح الآتي إلى عالمنا؟ لا نعرف بالضبط، لأن الله وحده هو فاحص القلوب والكلى (إرميا 10:17). إنه عيد كل الأمم لأن رعاة بيت لحم سمعوا جند السماء ينشدون: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس (جميع الناس) المسرة" (لوقا 14:2). ألله مسرورٌ في جميع الناس ولا يحب أن يرى إنسانا واحدا محروما من هذا العيد الذي هو للجميع وليس احتكارا على المسيحيين فقط. هذا العيد للبسطاء والدراويش والفقراء. الميلاد لا يُنَصْرِن الغير المسيحي بل يجعله محبوبا من المسيح.
 
 
إنه مولد يسوع المسيح كطفل صغير وفقير، من أمنا مريم العذراء الفقيرة من الناصرة، ومع البار والنجار مار يوسف المتواري عن الأنظار لشدة تواضعه. إنه يسوع الممسوح من الله. إنه الله الكلمة المتجسد. إنه المسيح الذي أخلى ذاته آخذا صورة عبد متمثلاً بسائر البشر. صار الله معنا. ماذا نفعل؟.
 
سبحان الله لأن التاريخ يعيد نفسه وما من جديد تحت الشمس (الجامعة 9:1). ولكن، هناك جديد فوق الشمس وقبل وجودها. عيد الميلاد هو عيد شمس البر المسيح إلهنا (ملاخي 2:4) المولود قبل كل الدهور. هذا يضعنا أمام شمسين: شمس غير مخلوقة وشمس مخلوقة. الشمس الغير المخلوقة هو المسيح لأنه النور الحقيقي الآتي إلى العالم، والشمس المخلوقة هو لوسيفوروس، الملاك العظيم، حامل النور (إشعيا 12:14). قد نتعجب لأننا لم نذكر الشمس المادية التي نعرفها، ولكن هذه الشمس المادية خُلِقَت في اليوم الرابع (تكوين 16:1) حسب المقياس الإلهي لليوم.
 
في البدء خلق الله السماء والأرض. خلق الله الملائكة قبل أن يخلق البشر. أرسل الله الآب، الإبن المولود قبل كل الدهور، لِيُكَوّن العالم (يوحنا 10:1). كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيا إلى العالم (يوحنا 9:1). ولكن، في هذه اللحظة، واللحظة هنا لا تقاس بالزمن الأرضي، حامل النور الباهر بجماله وكماله، لوسيفوروس (حزقيال 11:28) في جنة عدن (حزقيال 13:28)، قال في قلبه: "سأصعد إلى أعالي السماء وأرفع فوق كواكب الله عرشي (كواكب الله تختلف عن الكواكب التي خلقها فيما بعد) وأجلس على جبل الآلهة...وأكون شبيها بالعليّ" (إشعيا 13:14). هنا، صرخ ملاك غيور قائلا: "مي خا ئيل؟" أي "من مثل الله؟" ووقعت حرب في السماء بين رئيس الملائكة الذي أخذ إسم ميخائيل (من مثل الله) وملائكته وبين التنين، فقاتلهم التنين بملائكته، لكنهم انهزموا وخسروا مكانهم في السماء. وسقط التنين العظيم مع ملائكته إلى الأرض المغمورة بالمياه، هو الحية القديمة إبليس، خادع الدنيا كلها" (رؤيا 7:12). أصبح مظلماً في "عالم الأموات في أعماق الهاوية" (إشعيا 15:14) وفي أدنى أسافل الأرض. ثم سُمِعَ صوت عظيم في السماء يقول: "الويل للبَرّ (الذي سيظهر) والبحر (الموجود). لأن إبليس نزل إليكما وكله غضب لعلمه أن أيامه قصيرة" (رؤيا 10:12) و (رؤيا 12:12). هل لهذا السبب أشكال أسماك ظلمة الأعماق مخيفة؟ "كانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه" (تكوين 2:1) ليضبط الذي تجرأ "على الرب وعلى مسيحه" (مزمور 2:2) ويؤيدَ حقيقة الكلمة. أعلن الآب الكلمة وكوّن به العالم (يوحنا 10:1). عندها قال إلوهيم: "لنعمل الإنسان على صورتنا ومثالنا" (تكوين 26:1). إن الله بثالوثه الواحد، كان مُتَجَلّياً بهذا الوضوح قبل الخليقة وأن غموض صيغة الجمع في كلمة ’لنعمل’ تَجَلّتْ لنا، وما كان محجوباً كُشِفَ لنا بنعمة الروح القدس الذي يُعَلِّمُنا (يوحنا 26:14). 
 
خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، وغضب الشيطان لأنه اشتهى أن يُصْبِحَ مثل العليّ وها هو يرى الإنسان يأخذ ما اشتهاه هو. ارتفع قلبه ومنعه كبرياؤه من قبول الحدث، فقرّرغواية الإنسان بالمعرفة العقلانية الفكرية الجدلية وبثّ الشكوك في أقوال ووعود الله. خلق الله آدم وحواء وأمرهما "أن لا يقتربا من شجرة معرفة الخير والشر، ولا يأكلا من ثمرتها (تكوين 17:2)، لكي لا يعرفا الخير والشر ويقتربا من ملاك الظلمة. لم يُرد الله أن يَخْضَعَ الإنسان الأول البريء إلى غواية المعرفة الغير الإلهية. ولكن فضولية الإنسان الذي كان شبيها بالطفل البريء، أوقعته في فخ الشيطان الذي سكن الحية، ولم يكتف بما كان لديه من نِعَمٍ وامتيازات (سيراخ 23:3)، فسقط.
 
لأن ملاك النور المخلوق الساقط كان متكبراً متعاليا على البشر، أخلى النور الغير المخلوق ذاته آخذا صورة عبد متشبها بسائر البشر (فيلبي 7:2). لم يكن باستطاعة المتكبر أن يتنازل ليكتشف هوية المتواضع، لذلك جال في الأرض (أيوب 7:1) كأسد زائر (بطرس الأولى 8:5) مُفَتِّشاً عن المولود الجديد.
 
كيف يأتي النسل الإلهي من فتاة عذراء (إشعيا 14:7) ولماذا؟ لأن الله الغني، بتفتيشه عن الإنسان، اختبر الفقر والضعف والجوع والعطش والتشرد، ولبس ثوب الإنسان الذي خلقه. تذكرَ الله آدم وحواء. وعندما تركا الفردوس، افتقدهما وهمّ وراءهما يفتش عن وسيلة لإعادتهما إلى الفردوس، ولكنه استنفد كل الوسائل من ملائكة وأنبياء (عبرانيين 1:1) حتى وصل إلى حقيقة مرّة وهي تقدمة ابنه فداءً للبشر أجمعين (يوحنا 16:3). شوق الله إلى آدم وحواء، دَفَعَهُ إلى استنشاق رائحة الإنسان في الفردوس فلَبِسَ ثياب الإنسان أي جَسَدَهُ من مريم العذراء الفقيرة بنت الناصرة. 
 
افتقد الرب شعبه الضائع بسبب ضلالة وتقوقع اليهود الفريسيين والآخرين الذين انحرفوا عن التعليم الإلهي الحقيقي. في بيت لحم أي بيت الخبز، تجسد الذي سيصبح خبزا حيا وجوهريا للإنسان. رأى ملوكَ المشرق قادمين من بعيد فرافقهم كما رافق الرب الشعب الإسرائيلي في سيناء. أضاء نجمه فوق المجوس والملوك حتى وصلوا إلى أورشليم مدينة السلام. 
 
بعد زيارة هيرودس، بقي النجم فوقهم ولكن الملائكة رافقت الحجّاج لضمان حمايتهم من غدر هيرودس المشهور بدمويته. إثنا عشر ملكا أتوا من فارس والهند والسند وبلاد ما بين النهرين وبلاد العرب وبلدان أخرى مفتشين عن الإله الذي اشتهوه ولم يقدروا أن يعبدوه بسبب تقوقع واستعلاء اليهود. 
 
ملوك الأمم حملوا البشارة كلٌّ بحسب فهمه وكأنها بذار حكمة إلهية. برهن الله مُجَدّدأً بأنه حامي الضعفاء والأطفال ومخلص المتألمين والمحرومين، والتعبين والأرامل واليتامى، والمرفوضين والمهشّمين. قضى وقتا على الأرض ولم يتأكد منه إبليس بل استمرّ يُجَرِّبُه غير مُصَدّقٍ أن الإله أخذ جسد ابن الإنسان الذي رفضه منذ البدء. حتى عند موت المسيح لم يكن الشيطان متأكداً منه. جسد الإنسان الضعيف خدم يسوع وأخفى نوره. ولكن، عندما قام من بين الأموات، فاض النور من القبر واضمحلّ الموت، سلاح الشيطان الأقوى. عرف إبليس طبيعته المخلوقة مقارنا نفسه بالمولود الأزلي الذي لا يموت.
 
لم يكتفِ إبليس بهذه المعرفة بل حرّض العالم أجمع على الكنيسة وهاجمها من الخارج والداخل فاتنا بين الإخوة، ولكنه لم يقدر على تدميرها لأن المقتدين بتواضع المسيح تواضعوا مثل معلمهم وتخلوا عن أمجاد الأرض الزائلة.