بقلم : ماهر عزيز
فجأة .. ودون أية مقدمات .. روع ملايين الأقباط المكلومين في مدهسة ماسبيرو بتكريم الكنيسة لأحد الفاعلين الكبار في تلك الجريمة الشنعاء التي سجلها التاريخ بدماء ودموع لا تجف أبدا .. كما سجلها أيضا بطحين أجساد تهرست عظامها  تحت عجلات المركبات العسكرية  تهرسا مهولا لا تذروه رياح الزمن مهما طالت الأيام !!!
 
فوجئ المكلومون الملايين في كل مكان وهم يتسألون : كيف ؟ ولماذا ؟ وهل يمكن ؟ وهل يجوز  ؟؟؟؟؟ 
 
واذ لم ينبر أحد ببيان يفسر السبب الدفين الملغز ، شاعت تكهنات وتفسيرات وتبريرات عديدة ، دون أدني تصريح رسمي من المؤسسة الدينية التي اقترفت هذا التكريم المشين الملغز   !!! 
 
سري  أولا تبرير مذهل ظاهره تفسير ما حدث ،  وباطنه تبرئة الجالس علي السدة المرقسية من شبهة الاشتراك في هذا الفعل المشين ، الذي يذهب الظن بأن من دبره وخطط له هو أحد مرؤسيه من  حوله ،  المتهم دائمآ بمحاولات عديدة للإيقاع برئيس المؤسسة الكنسية .
 
والذي يدعو للذهول في هذا التبرير أنه يجعل من رئيس المؤسسة الدينية رجلا عاجزا  تماما عن التفكير من ذاته وبذاته ،  لا يدرك المواقف و الأحداث ،  ولا يعرف الصواب من الخطأ  ، او - وذلك أضعف الإيمان -  لا يعنيه  مطلقا  الشعب الذي تقوده مؤسسته قيادة "مزعومة روحية"  ، بينما هي أبعد ما تكون عن الروحيات في زمن تسيدت فيه المادة كل الاشياء !!!
 
لا أقول أن رئيس المؤسسة الدينية هو ذاك ... بل أقول أن التبرير المقدم  وحده  قد اضطلع  بتصويره علي هذا النحو... بينما الحقيقة الناصعة هي أن  رئيس المؤسسة الدينية منذ ظهر علي الساحة بدا رجلا  مقتدرا علي التفكير ،  يدرك علي نحو حصيف المواقف والأحداث ، ويعرف جيدا الخطأ من الصواب ، حتي أنه منذ جلس علي السدة المرقسية لا يفتأ يعلم الناس الصواب ، وينهيههم عن الخطأ بجدارة وتمكن واهتمام !!!
 
 ثم سري ثانيا  تبرير آخر قد يرقي الي مرتبة التفسير ، ولكنه التفسير الذي تحوطه محظورات جمة !!!
 
هذا التفسير مؤداه أن الشخص الذي لا تزال تقطر من بين أصابعه دماء المدهوسين دهسا في ماسبيرو كان مدعوا - بحكم وظيفته الحالية - علي نحو بروتوكولي صرف ، ضمن مدعوين  كثيرين لحضور حفل العرض الأول لفيلم " المكتبة الباباوية المركزية "  بمناسبة الاحتفال ( بالعيد !!! ) الثامن لجلوس الحبر الأكبر علي السدة المرقسية ،  وذلك ضمن لفيف من المسئولين ، الذين ضموا وزيرة الثقافة ،  ووزير السياحة والآثار ، ونخبة من رجال العلم والفكر والبحث والثقافة ،  وقد تم تقديم درع المركز الثقافي للوزراء الثلاثة لتشريفهم الحفل ، ولم يكن التكريم خصيصا لأمر معين .
 
وهنا تتضح الصورة علي نحو أكبر .. فالمناسبة عامة .. والتكريم عام أيضا .. وهنا الظن بالبراعة التي خططوا لها :  أن يتم تكريم عام ، يدسون فيه الأيدي المخضبة بالدم  بين آخرين ،  في مقدمة عملية لإعادة تأهيل الشعب القبطي للصفح عن المخضبة أيديهم بدماء ماسبيرو ؛  وإعادة قبولهم بأشخاصهم في الوعي القبطي العام ، كمرحلة أولي للطمس علي ذاكرة ماسبيرو ..
 
فالجالس علي السدة المرقسية إذن هو رجل شديد الوعي ،  يفهم جيدا ما يفعل ،  ولا يمكن لأحد أن يجره الي ما لا يريده ، و " صوته من رأسه " ،  شديد الاعتداد بفكره ؛  حتي أنه نادرا ما يستمع لأي مستشار في أي شأن ، وهو يفعل ما يدركه تماما برغبته الكاملة وقناعته كلها ..  فتمت بلورة الحدث في سياق تصدير روح العفو والمغفرة للشعب القبطي استنادا الي دعوة يسوع في إنجيل المصالحة والسلام  !!!
 
لكن الأمر المفجع أن هذه التقديرات  قد  أخفقت اخفاقا مروعا .. 
 
ذلك أن الصفح والغفران الذي كان  معتزما  لا يسوغ ولا يجوز إلا علي المستوي الشخصي .. فالجالس علي السدة المرقسية يمكنه أن يغفر لمن أساء إليه شخصيا .. لكنه لا يملك أن يغفر لمن  شارك في  دهس شعب بأكمله .. و هكذا عصي الشعب علي كل تنبؤات الغفران ..
 
 وتعاظم إخفاق هذه التقديرات الساذجة  علي نحو مفجع أيضا حين تجلت الحقيقة التي أراد الكل أن يدوسوها ، ظنا بقدرتهم أن يتجاهلوها ،  ألا وهي أن الشعب المفجوع في طحن عظام أولاده في ماسبيرو  ذو  ذاكرة حية لا تموت ؛ وحافظة متألمة لا تنزاح آلامها عنها البتة !!!
 
جاء اخفاقهم مروعا لأن الشعب الذي ظنوه لا يعامل إلا  بوصفه قطعانا من المواشي والأغنام  فاجأهم بأنه يتذكر ويحس ويشعر ..  وأن شعوره هذا يتحدي الزمن والأيام  !!!