الاب اثناسيوس حنين

التراث المسيحى يميز شكليا ’ ولا يفرق جوهريا ’ بين العلمانى والأكليروس لسبب بسيط وهو أننا جميعا واحد فى جسد المسيح حسب العهد الجديد والأباء. الأكليروس هم من اختارهم ربهم والكنيسة من وسط العلمانيين ’ وهذا الاختيار يسمى اكليروس أى نصيب أى من كان نصيب الله فى الخدمة ’  أى الشعب كله لخدمة الكلمة والاسرار .الفارق بين الكاهن أيا كانت رتبته وبين العلمانى ليس على صعيد القداسة لأننا جميعا أمة مقدسة بالنعمة ’ الاختلاف هو فى الوظيفة أو الموهبة فى الجسد الواحد حسب العلمانى القديس بولس الكارز.

 

المطران حسب أصل الكلمة هو اسقف المدينة او العاصمة والاسقف هو الرقيب لكونه يهتم بكل بشئون الكنيسة ويرى ما يجرى فى كل رعية ’ يعالج قضايا الناس ’ومشاكلهم العائلية ’ يتعهد كل موهبة وينميها ويدعم كل فكرة بناءة وكل حركة ونشاط تبتغى البنيان لمجد الرب .غير أن مسئوليته الخاصة هى اجتماعه مع الكهنة والسهر على ثباتهم وراحتهم سعيا وراء الروح الواحد ’والاهتمام بمجالس الكنائس والتى تمثل دور العلمانيين فى الادارة الكنسية ’والأساس فى كل ذلك هو التنقيب العلمى واللاهوتى والكتابة والنشر والسهر على العقيدة حيث هى مهددة والحورات اللاهوتية المسكونية والتى تتطلب علماء نساك متخصصين وليس هواة لاهوت ’ وفوق كل ذلك الاهتمام بطلاب اللاهوت من العلمانيين الواعدين .لأنه بلا لاهوت لا يمكن لاسقف او قسيس او علمانى أن يتصرف فى الكنيسة ! أذا غاب اللاهوت علما وحياة وخبرة وخبر تحل محله بالضرورة النزوة والمجد الباطل وأنا لبولس وأنا لأبولس !.

 

ويخاطب الشهيد اللاهوتى اغناطيوس الانطاكى’ فى مطلع القرن الثانى ’  شعب كنيسة سوريا  قائلا"لا يكن لكم مع أسقفكم الا فكر واحد كما أنتم فاعلون . وأن قسسكم المحترمين اللائقين بالله هم متحدون بالاسقف اتحاد الاوتار بالقيثارة...وليدخل كل منكم (أى الشعب كله) فى الجوق أى الخورس بحيث تتعدد أصواتكم وتتوحد نغماتكم".( راجع المطران جورج خضر ’الروح والعروس1 أهل بيت الله ’بيروت 2000)ص 51و115-126 .قال مرة القديس اوغسطينوس لشعب أبرشيته "أنا أخ لكم وأسقف عليكم ".الكنيسة لا تعرف علمانيا واكليريكيا لأنها وحسب الأب نيقولا أفاناسييف "كنيسة الروح القدس "وكما يتم رسامة الاكليروس هكذا تتم رسامة العلمانيين أعضاء فى شعب الله بالمعمودية والميرون  والجدير بالذكر أن المؤكد تاريخيا ’ حب شهادة عالم الليتورجيات الروسى ’ أفاناسيف ’ فأن حلة المعمودية قد ظهرت قبل ظهور اللباس الكهنوتى (منشورات النور 1986ص63 -80 ).

 

وهذا هو الكهنوت الملوكى لكل شعب الله حيث أقام المسيح المؤمنين "ملوكا وكهنة لله أبيه " رؤيا 6’6.ويؤكد مقاريوس المصرى فى رسائله هذه الحقيقة فى صياغة نسكية جديدة أتية من البرية المصرية ’حينما يقرر أن الانسان كاهن على مذبح قلبه ويستدعى الروح فى الصلاة الحارة ليحل على مذبح القلب .أدت ظروف كثيرة تاريخية وكنسية الى أختفاء مذهب الكهنوت الملوكى للعلمانيين من اللاهوت العقائدى الى أن ذكرنا به المبشرون من المرسلين الانجيليين ووقتها تصدى لهم من لا يعرف منا وأتهموهم بالهرطقة لأنهم ظنوا أن فى هذا هدم للكهنوت الخاص ومصالحه الخاصة ! اذا جاز التعبير . ربما يعود الأرث الثقيل للعداوة بين العلمانيين من وجهاء وباشوات الطائفة وبين الاكليروس الى عصر الذمية العثمانى  حيث كان المستعمر لا يتعامل مع الاكليروس الا من خلال باشوات الطائفة والذين لا يدخلون الكنيسة الا يوم معموديتهم ومماتهم فقط. الوقف والمال والسلطة والوجاهة والغياب المأساوى للاهوت بل وتبنى لاهوت مدرسى وغربى غريب يصنع فجوة بين كهنوت العلمانيين وكهنوت الهيرارشية  ! كل هذا قسم  شعب الله وما زال يقسم بالرغم من تغير الظروف وتجدد المعطيات اللاهوتية والسياسية والاجتماعية نحو الأفضل .

 

وصار البطريرك والمطارنة فى صراع مع ابنائهم من المؤمنين بل ومع بعضهم البعض وكل منهم يسعى لنوال الحظوة عند البابا العالى الذى يمارس سياسة فرق تسد !.والضحية هو الشعب ’ أى شعب الله . كانت المسيحية الاولى حركة علمانية . فالمسيح المنحدر من سبط داود لم يكن من سبط اللاويين وكما لم يكن للرسل علاقة خاصة بهيكل أورشليم لأنهم لم ينتسبوا الى الكهنوت اللاوى والمسيحيون الاوائل لم يمارسوا العبادة الليتورجية فى الهيكل ’ اذا لا يمكن خلق الكهنوت اللاوى وسطهم ’ وان كان قد وجد بينهم كهنة مسيحيين ’ فأن اشتراك هؤلاء فى حياة كنيسة أورشليم لم يكن ليغير الصفة العلمانية للمسيحية الاولى .( راجع الاب أفاناسيف ص 47 ). ما يحدث اليوم من انقسام بين العلمانيين وبين الاكليروس يعيدنا الى عهود ظلامية كنا نظن أنها ولت أو كادت .

 

ان اختلاط الادوار حيث تعلمن المطارنة وتمطرن العلمانيون لا يعود الى محتل عثمانى ’ وان لم تخلو الساحة من تدخلات حكوميةفى شئون الكنيسة ’ ولكنها تعود لسبب أساسى وهو ارتفاع مستوى العلمانيين اللاهوتى والثقافى والمعرفى وخاصة فى قطاع الشباب والصبايا ’هذا أدى الى انشغال العلنانيين باللاهوت وصمت الاكلريوس عن الكلام ! ليس تواضعا بل لقلة أو ندرة المعرفة اللاهوتية والتاريخية ولفقدان هويتهم الكهنوتية ودعوتهم الملوكية .النتيجة هى ما نعيشه اليوم من انشغال المطارنة بالشأن العام دون الشأن الخاص وتحول الاديرة والكنائس الى مؤسسات تجارية ومشاريع استثمارية ينفرد بها الاسقف دون غيره وبالتالى لا وقت لديه للسهر على الرعية والبحث اللاهوتى والتوبة والقداسة !

 

وهنا صار للعلمانيين كلمة فى قضايا اللاهوت والكنيسة بينما غاب عن الساحة اللاهوتية والثقافية المطارنة والمجمع المقدس غيابا مأساويا . تزداد القضية تعقيدا حينما نرى ونشاهد نسمع توجه عند المطارنة بتجاهل الشعب بعوامه ومثقفيه وغياب الحوار مما دفع العلمانيون الى اللجوء الى وسائل التواصل للتواصل وصار صوتهم صوت من يصرخ فى البرية ’ وهى ليست برية يوحنا المعمدان التى تصنع طريقا للرب ’ بل برية قاحلة وجرداء ! برية يحرث فيها العلمانيون الاقباط فى الرمل بلا ماء  .

 

هذا كله يحصد شعب أكبر كنيسة فى الشرق  أثاره المدمرة .ففى الوقت الذى ينموا فيه العلمانيون لاهوتيا ومعرفيا وثقافيا ومنهم من يخطب ود الدولة فى مشاريع اصلاحية وتوفيقية لا تخلو من هدف سياسى ’ نجد المطارنة ينمون فى تأسيس مؤسسات ومبانى ومشاريع ليست من اختصاصهم مما يعقد مسيرة الرعاية ويصنع حالة من الاسهال الاستهلاكى والامساك اللاهوتى . نعم نحن نحيا مرحلة فيها يتمطرن العلمانيون ويتعلمن المطارنة.