النكتة مختلفة عن الردح، النكتة فن والردح بلطجة، وللأسف كثير منا يفهم فى تلك الأيام النكتة ويتعامل معها على أنها نوع من الردح والشتيمة والتنمر، لذلك عندما أسأل عن اختفاء النكتة، فأنا أسأل من موقف انزعاج، لأن اختفاءها يعنى انسداداً لشرايين البهجة فى الجهاز الدورى للعقل المصرى، لذلك فتش عن النكتة، هى مفتاحى السحرى وكلمة السر وحل اللغز، هى أنجح محاولة لرسم بورتريه للوطن، فليس أفضل من النكتة كريشة سحرية ترسم اللوحة بلا رتوش وبألوان هى كألوان معابد الفراعنة لا تبهت لأنها ضد الزمن، وبعيداً عن علوم الاجتماع والأنثروبولوجى ومجاملات الحكام والسلاطين والمكاتبات الرسمية وبلاغة الأقوال وزخرفة الكلمات والتنميق والتزويق، «فتش عن النكتة» وابحث فى مدلولاتها ومعانيها المختفية والمضمرة فهى ثقافة الشعوب الشفهية التى تكشف المستور، وتبوح بما تخفيه الأعراف والتقاليد وألاعيب السياسة وكبت الجنس وحتى بما تقننه وتستره طقوس وتعاليم الدين، فهى الدستور غير المكتوب والأدب الذى يتعالى عليه النقاد.

النكتة كالعشق تستعصى على التعريف وتتحدى التصنيف والقياسات والمعادلات الرياضية، إنها الفن المجانى الذى يمارسه الفقراء، وحفلة الزار الجماعية التى تقيمها الشعوب المقهورة، وبرغم أن الفقراء والمقهورين ليسوا أصحاب التوكيل الوحيد لقطع غيار النكت، فإننا نستطيع أن نقول إنهم أصحاب وملاك الصناعة الأصلية، فالنكتة المغموسة فى ملح الفقر والقهر هى الوجبة الأساسية، أما عند أهل الشمال والراحة فهى مجرد «أبراتيف» أو فاتح شهية، هى عندنا صراخ وعندهم همس، هى عندنا ضرورة وعندهم ترف، ونكتتنا حراقة بالفلفل والشطة والحواوشى، ونكتتهم باردة بالكاتشاب والمواد الحافظة والمايونيز.

أكبر مشكلة عند من يمارسون التنكيت فى مصر والتى لا توجد فى بلاد الفرنجة هى أن الواقع المصرى كوميدى جداً أكثر من قدرة أى نكتة شعبية، والحياة المصرية فى حد ذاتها نكتة تتجاوز طاقة أى نكتة مخترعة، ولذلك فصناعة النكتة المصرية صعبة بل وفى بعض الأحيان مستحيلة، وازدادت الصعوبة أكثر حين قل التواصل أو انعدم بين أفراد المحروسة الذين أصبحوا جزراً منعزلة، وبما أن النكتة يتم طبخها فى أفران جماعية لتستوى على مهل وبعدها تنتشر بسرعة الضوء، فإن الخرس الاجتماعى يقتلها والتواصل الحميم ينعشها ويرويها بدليل أن أغلبية النكت تولد وتنتشر عبر المقاهى والأندية والغرز والفصول الدراسية.. إلخ، وكان دخول الإنترنت أكبر ثورة فى عالم التواصل الإنسانى الذى بلا حدود، وأصبح من الممكن أن تتواصل مع العالم كله وليس مع أفراد مجتمعك فقط، ومع الإنترنت عادت النكتة لتزدهر من جديد وانتعشت الذاكرة الجماعية المصرية التى تطبخ النكتة ولكن هذه المرة تم الطبخ والتقديم بل والأكل بواسطة جيل مختلف يتقن لغة الكمبيوتر ويتواصل بالإنترنت، ولم تكن لنكاته وسخريته مذاق مختلف فقط بل للغته أيضاً المذاق نفسه، عبر الإنترنت ستفهم النكتة الجديدة والأهم أنك ستفهم الجيل الجديد نفسه، فالجيل الجديد أو ما يطلق عليه الجيل الروش يحتاج إلى الفهم قبل الإدانة، وفك الشفرة قبل وضع كلمة السر، والحب قبل التربص، فهذا الجيل لن يستطيع ناقدوه إلغاءه من الوجود، ولن يتمكن مهاجموه من تغييره بولادة قيصرية جديدة ووضعه فى حضانة أعرافنا وتقاليدنا وتوصيله بخراطيم أكسجين الانضباط الأسرى والاجتماعى القديم ولكن أقصى ما يستطيع تقديمه أهل الخبرة، كما يسمون أنفسهم، هو الإنصات للفهم والمعرفة وليس التنصت للمصادرة والتحرى، وتعريف الخبرة هو أنها المشط الذى تمنحه الحياة للأصلع بعد فوات الأوان!، وأعتقد أن الجيل الروش يحتاج إلى الشعر قبل المشط، والحياة قبل النصائح، والتجربة قبل التعالى على أو الخوف من التجربة.
نقلا عن الوطن