سحر الجعارة
أخطر ما يهدد السلم الاجتماعى، بل والأمن القومى، هو أن نسلم عقولنا لـ«شوية عيال»، لا نعرف مَن موّلهم ودفعهم لإشعال حرائق الفتنة الوطنية.. نحن جميعاً و«أولو الأمر» من قبلنا نوقن أن «السوشيال ميديا» أصبحت مسرحاً لحربنا مع الإخوان والجماعات التكفيرية، ولنبدأ من غزوة «إلا رسول الله يا فرنسا».. والتى وصفتها جريدة «الوطن» بأن «المشهد الذى أغضب 1.5 مليار مسلم على وجه الأرض وآذى مشاعرهم، تخلله سيل من التزييف والتحريف والمتاجرة السياسية بالإساءة للدين، وصناعة الأكاذيب لتفريغ القضية من مضمونها».

وبحسب نفس التقرير، فإن الصورة الكاملة فى الأزمة، التى بدأت من صفحات «شارلى إيبدو» الفرنسية وانتهت إلى صفحات السوشيال ميديا، لتكشف الغطاء عن صناعة الأخبار الزائفة خلال الأزمة والشائعة ذات الصبغة الدينية، وتضمين الترجمات المحرفة لتصريحات رئيس فرنسا، والخداع بتصميمات لصور مفبركة تنقل فيها كلمات عن الحرب على الإسلام، وقع فى فخها ملايين المسلمين وصدقوها ونشروها دون تحقق.

وتشير «الوطن» إلى الهدف من «الحملة الإلكترونية» بأنه «تخليص مصالح اقتصادية وسياسية»، فتقول: تغيرت بوصلة القضية إلى حرب اقتصادية بمقاطعة المنتجات الفرنسية، استغلها أهل الشر لصالح حليفهم أردوغان، الذى يشهد من قبل علاقات متوترة مع الدولة المسيئة.

هكذا يمكن أن نفهم الآن كيف تم تصميم وتنفيذ معركة «إلا رسول الله»، وكيف كنا نحن كمسلمين مجرد «وقود» لمعركة سياسية- اقتصادية، تم استنزاف مشاعرنا ووقتنا وأعصابنا فيها.. فما إن خمدت نيران غزوة «إلا رسول الله يا فرنسا» حتى انفجر فى وجهنا فجأة بركان «هانى وندى»!

«هانى وندى» شابان متعصبان «كل لدينه» على موقع الفيس بوك، افعتلا معركة بين الإسلام والمسيحية، وسرعان ما اشتد غضب المسلمين بنفس غضبه وقوة طوفان «إلا رسول الله».. الكل يطالب برأس «هانى- المسيحى» بسجنه أو سحله -لا فرق- بتهمة سب الرسول عليه الصلاة والسلام.. مع مطالبات بالقبض على «ندى» بازدراء الدين المسيحى!

ولم تهدأ ثورة «السوشيال ميديا» حتى بعد القبض على «هانى وندى»، مع استمرار ثورة الشباب المدفوعة بنفس آليات «إلا رسول الله»: من الأخبار الزائفة والشائعات ذات الصبغة الدينية، والخداع بتصميمات لصور مفبركة «سكرين شوت» ومحادثات وهمية تم تزويرها بسرعة لرفع معدل الغضب الإسلامى «الحميد» للقصاص.. وفى المقابل كان النشطاء المسيحيون على السوشيال ميديا يتساءلون: هل المادة 98 من قانون العقوبات المصرى، (المسماة بازدراء الأديان)، صُممت خصيصاً لحماية الدين الإسلامى ولا تنطبق على باقى الأديان؟

على «تويتر» تم تدشين هاشتاج للمطالبة بالمساواة فى المحاكمة، وترددت أسماء أخرى وكأن المطلوب أن تنتشر الفتنة فى كل مدينة وكل بيت مسلم أو مسيحى.. ثم صدر بيان «النيابة العامة»، فى 12 نوفمبر الجارى، ليؤكد أن «وحدة الرصد والتحليل» بمكتب النائب العام قد رصدت تداولاً واسعاً بمواقع التواصل الاجتماعى لصورة من محادثة نصية منسوبة لشخص مقيم بمحافظة الإسماعيلية تشكل جريمة ازدراء الدين الإسلامى بالإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعرض الأمر على «السيد المستشار النائب العام» أمر سيادته بالتحقيق العاجل فى الواقعة. وطلبت النيابة فى إطار تحقيقها تحريات «قطاع الأمن الوطنى»، و«قطاع تكنولوجيا المعلومات بوزارة الداخلية»، للوقوف على ظروف وملابسات الواقعة وتحديد مرتكبها ومدى صلته بمالك ومستخدم الحساب المشكو فى حقه، ومدى إتاحة إطلاع الكافة على المحادثة موضوع التحقيق، وجارٍ اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.

نعم «المحادثة».. هانى أو ماريو أو X لم يكن يحدّث نفسه، ولا جعل صفحته مجلة إلكترونية لإهانة الرسول، عليه الصلاة والسلام، بل كان يتحدث مع «بشر مسلمين» وتبادل الجانبان قذائف الطعن فى عقيدة الآخر، وتعمدا -بحسب المتاح من منشورات- سب الرسل.. إذن هل نطبق القانون بشكل انتقائى على طرف ونترك الآخر؟!

المفاجأة أنه بعد القبض والتحقيق مع كل من «يوسف هانى وندى محمود»، وعند عرضهما على قاضى المعارضات بمحكمة الإسماعيلية، للنظر فى أمر تجديد حبسه من عدمه، أقر المتهم بارتكابه الواقعة وقال إنه ندم على فعله ويحترم الرسالات السماوية، والرموز الدينية، كما قدم محامى المتهم مذكرة مكتوبة تتضمن اعتذاراً.. وتم إخلاء سبيل الطالب «يوسف هانى».. وهو نفس القرار المتعلق بـ«ندى محمود».

قطعاً لا يجوز التعليق على أحكام القضاء، ولكن دلالة الحكم: أنه لم يعد مجدياً إحراق الوطن بافتعال معارك فى العالم الافتراضى، ربما راعى القاضى «صغر سن المتهمين».. وكلنا نعلم أن من حق القاضى الاحتكام لـ«روح القانون».

ما يهمنى -هنا- هو أنه قد آن الأوان لمحاكمة المادة «98» من قانون العقوبات، المسماة «ازدراء الأديان» لتعارضها مع دستور البلاد.. فالمادة «٦٥» من الدستور تنص على أن «حرية الفكر والرأى مكفولة ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر».. ولدينا هيئة قضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية فى مصر وهى المحكمة الدستورية العليا، ومهمتها مراقبة تطابق القوانين مع مواد الدستور، فهى تقوم بإلغاء القوانين التى تخالف نصوص ومواد الدستور المصرى.

المادة «98» من قانون العقوبات لم تُعاقب ولا شخصاً ممن كفروا المسيحيين، (رغم أن «السادات» وضعها فى القانون بعدما استخدمت الجماعة الإسلامية منابر المساجد للإساءة إلى المسيحيين)، بدءاً من «سالم عبدالجليل»، الذى حذر المشايخ من التقاعس عن حربه المقدسة على الأقباط، أو التخلى عنه فى «موقعة التكفير»!. «عبدالجليل» تحدى المؤسسة الدينية الرسمية أن تكذبه.. ولم يكذبه أحد، بل انضم إليه «عبدالله رشدى» مسانداً وداعماً لغزوة تكفير الأقباط!!. لكنها أصبحت مشنقة لاصطياد المفكرين والمجتهدين، ومادة حارقة للسلم الاجتماعى والوحدة الوطنية.. التى وُضعت أساساً لحمايتهما.

(إن الحرية المتاحة فى العالم العربى كله لا تكفى نصف كتاب واحد).. جملة قالها الراحل «يوسف إدريس».
نقلا عن الوطن