وكانت خلافة عمر بن عبدالعزيز- الخليفة الخامس- العصر الذهبى للمعارضة فى العهد الأموى، فقد رفع الظلم عن الناس، ومنهم آل بيت النبوة وشيعته، وأعاد لورثة فاطمة بنت محمد (ص) «فدك» قطعة أرض قد حجبها أبوبكر عنها بعد وفاة النبى، بحجة أنها من «الخمس»، وهو حق الرسول فى ريعه وهو حى ولا يورث، إلا أن للشيعة رأيا آخر، فإن عمر هذا يظل من أحفاد بنى أمية ولا حق لهم فى الخلافة وهو منهم، ومصيرهم إلى النار يدخلون فيها من باب بنى أمية، إلا أن عمر الخليفة كان له من أهل الكتاب فى الأمصار ما كان لمعظمهم من ظلم، وهذا بعض مما كتبه لعماله: «فإن عمر يكتب لكم من كتاب الله (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس)، جعلهم الله حزب الشيطان، وجعلهم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وقد بلغنى عن قوم المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدموا إلى بلد أراهم أهل الشرك، فاستعانوا بهم فى أعمالهم لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبر، وقد كان لهم فى ذلك مدة وقد قضاها الله، فلا أعلم أن أحدًا من العمال أبقى فى عمله رجلا متصرفا على غير دين الإسلام إلا نكلت به، فإن محو أعمالهم كمحو دينهم، وأنزلوهم منزلتهم التى خصهم بها الله من الذل والصغار». ونهى أهل الكتاب عن ركوب الخيل أو الدواب بالسروج على غرار العهدة العمرية، وعن هذه العهدة العمرية دار حديث ينفيها ويكذبها، وأنا أرى بما فعله بن عبدالعزيز فى رسائله هذه، فقد أثبتها وأقرها وأكدها.

وما استراحت المعارضة قليلا حتى جاءها «هشام بن عبدالملك بن مروان» وهو عاشر خلفاء بنى أمية، تولى الخلافة بعد أخيه «يزيد»، وقد جاءها بعد مقتل عمر بن عبدالعزيز، واستفتح عهده بقتل «غيلان الدمشقى» و«الجعد بن درهم» على يد عامله فى العراق «خالد القسرى»، ونكتفى هنا بقتل «الجعد بن درهم» وله فى تأسيس الفكر المعتزلى نصيب وافر، وتلميذه الجهم بن صفوان «قُتل أيضا»، وكل هؤلاء المفكرين والمعارضين قد جاءوا على جواد الشيعة فرسانا فى الفكر والرأى فرقةً وراء الأخرى، وقد كان لأهل السنة رد الفعل على هذه الفرق لدحضها وهدمها دون سبق، وقُل عن متلازمة المظلومية والإبداع عند الشيعة ما شئت، وهو أول من قال بخلق القرآن، ونزه الله الخالق عن صفات المخلوق، ويطلق عليها السلفية «تعطيل صفات الله»، ونفى أن يكون الله قد كلم موسى تكليما، وأن يكون قد اتخذ إبراهيم خليلا، «وله تأويل فى هذا غاية الفضل والثناء، أما عن قتله، فقد جاءوا به من السجن مقيد الأغلال، وأجلسوه تحت المنبر على طول يد وقدم الخطيب وهو(خالد القسرى) ولما انتهى من خطبة العيد خاطب الحضور (أيها الناس انصرفوا إلى منازلكم وضحوا، تقبل الله منكم، فإنى مضحٍ بالجعد بن درهم) ونزل المنبر وأمسك سكينا وذبح الجعد وهو مقيد فى أغلاله فى صحن المسجد، والناس فى ذهول، وجاءت فى معظم كتب التراث حتى البخارى وابن تيمية وابن القيم وغيرهم».

أما عن موقف المشايخ والعلماء من هذه القتلة وشرها، فكانت سعادة معظمهم غامرة بمقتله، إذ أثنى ابن القيم على قتله ومدح خالدا وشكره، وقال: «وقتله أفضل وأعظم أجرا من الأضحيات»، ولو راجعنا أحاديث السلفية لتسمعن العجب والإعجاب والرضا عن قتله داخل المسجد، وفيه شفاء لصدورهم المريضة، وهذا الذهبى يقول عن فعلة خالد: «إنها من حسناته»، ولم يكن الرجل يستحق القتل وربما يستحق الجدال والحوار.

ونعود إلى التأويل عند «الجعد» وهو مبدأ المعتزلة أيضا، وليتهم فهموه، كما لم يفهموا «الحلاج» من قبل، فما صلبوه كعهدهم دائما بأصحاب الرأى والفكر، فهو والمعتزلة ينفون فكرة «التجسيم» عن الله، وينكرون صفات المعانى عنه كالسمع والبصر والكلام، وكذلك ينكرون الصفات الفعلية، كالاستواء والنزول والغضب والرضا، وكذلك الصفات الخبرية والحسية كالوجه واليدين، وهو تنزيه لله، فليست صفات الخالق كصفات المخلوق، والخلة والكلام شفاهة مع العباد لا تليق بمقام الألوهية والربوبية (اتخذ إبراهيم خليلا) أو (كلم موسى تكليما)، ولا يقصد الرجل تكذيب هذه الآيات أو إنكارها، لكن تأويلها تنزيه ورفعة وتعظيم لله عن «مشابهة خلقه»، إنما تطلق الأسماء المشتقة والمقصودة على ذاته تعالى، فيقال إن الله حى وسميع وبصير وقدير وقوى، دون أن يقال: له حياة وله سمع وله بصر وله قدرة، من باب «ليس كمثله شىء»، ولكى تتجلى وتظهر هذه الصفات على خلقه فإن الله يستخدم أحد لوازمه فى هذا التجلى، (ومعنى ذلك أن الله يخلق كلامه فى غيره كالشجرة حين كلم موسى، وجبريل حين نزول القرآن، وتجلى على الجبل وجعله دكًا حين أراد موسى النظر إليه)، ولم يكن قتل هؤلاء المعارضين لرأيهم فى العقيدة، بل كان قتلهم سياسيا، لأن خلفاء بنى أمية وولاتهم كانوا أبعد الناس عن قتل الناس لهذا، ولا يقتلون إلا إذا هددوا ملكهم وسلطانهم، فقد ارتكبوا من الجرائم ما زلزل أركان العقيدة دون تراجع أو ندم، وكان قتلهم أصحاب الفكر والرأى اجتراء على الدين وعلى حرمته وأمانه، وسلامة خلق الله من الأذى والقتل على الرأى وعلى الفكر دون محاورة أو مجادلة.. أما عن فكرة خلق القرآن وهى محنة كبيرة.. فمعًا إلى أن يشاء الله.
نقلا عن المصري اليوم