أمينة خيرى
ظاهرة الازدراء المنتشرة فى المجتمع لا تُخطئها عين أو تتوه عن تشخيصها الحواس. والازدراء يختلف عن الكراهية، ويمكن القول بأنه أكثر إيلاماً وأشد قسوة، حيث المهانة والاحتقار المرتبطان بالازدراء يجعلان من الكراهية أو العداء سمات أرقى وأخف ضرراً. يقول القاموس إن الازدراء هو كلمة أو صيغة لها دلالة سلبية أو رأى مُحط من قدر شخص أو شىء. وهو يدل على عدم الاحترام ولا يخلو من الاحتقار والامتهان. وغير ما يعتقد كثيرون، فإن المحطة الأخيرة للازدراء تكون ازدراء دين أو معتقد الآخرين، لكنها ليست المرحلة الأولى. بمعنى آخر، من يهوى أو يُقبل على أو لا يرى ضرراً فى ازدراء معتنق الآخر مر بمراحل عديدة من اعتناق الازدراء ونشأ على اعتبار احتقار الآخرين حقاً أصيلاً. كما أنه على الأرجح يكون ملوثاً بعنجهية اعتبار نفسه وما يؤمن به وما ينتمى إليه الأفضل والأرقى والأسمى.
ويمكن القول إن آفة الازدراء التى باتت منتشرة فى مجتمعنا لها أسباب اجتماعية وتعليمية وأخلاقية عدة، تفاقمت واستفحلت منذ سبعينات القرن الماضى. وما أدراك ما سبعينات القرن الماضى! انهيار تعليم، تفتت التفكير النقدى، هيمنة الدولار على الأدمغة، انفتاح الاقتصاد المرتكز على «الولا حاجة» الفكرية والأخلاقية والسلوكية، وأخيراً وليس آخراً فتح أبواب العباد فى البلاد على مصاريعها أمام نسخ مشوهة من التفسيرات الدينية التى ألحقت أكبر الضرر بالمتدينين ووصمت، مع كل أسف وألم، الإسلام بما ليس فيه من عنف فكرى ولفظى وعملى، ومعانٍ غارقة فى العنجهية والنرجسية، وتعاليم غارقة فى سفاسف الأمور من حسابات رياضية لتعظيم الحسنات وإجراءات دنيوية لا تخرج عن إطار كيفية دخول الحمام وإجراءات الخروج منه وطرق النكاح وتحقير النساء، والقائمة السبعينية طويلة ومُنهكة. وتاهت فى خضمّ هذه الهجمة الشرسة، التى صاحبها سكوت أو تجاهل أو اتفاق جنتلمان سياسى، القواعد السلوكية والأخلاقية التى يرتكز عليها الدين، والتى تجعل من معتنقيه مثالاً محبباً يُحتذى ونموذجاً جميلاً يُتَبع.
واتباع المفهوم الشعبى لكلمة «ازدراء» فى مصر هذه الآونة يعنى ازدراء الدين الإسلامى، نقطة. والنقطة هنا تعنى انتهاء المفهوم، حيث لا مجال لإضافة مفعول به آخر يقع عليه فعل الازدراء إلا الدين الإسلامى. وهذا شىء غريب. لماذا؟ لأن الازدراء بات آفة منتشرة بيننا بأشكال متعددة. فمثلاً هناك ملامح ازدراء من الطبقات العليا للطبقات دون المتوسطة باعتبار الأخيرة عبئاً وعالة اقتصادية واجتماعية، بل وشكلية. وهناك معالم ازدراء من الطبقات الفقيرة تجاه الطبقات الأعلى اقتصادياً معتبرة إياها السبب فى فقرها ومحرمة عليها الاستمتاع بما لديها دون مشاركته معها. وهناك ازدراء واضح وصريح من قبَل ملايين الرجال تجاه الأنثى، فهى إما جهاز مصنوع من أجل إشباع رغبات الرجل الجنسية فقط، أو هى كائن غبى لا يملك من أمره شيئاً... إلخ. وهناك كذلك ازدراء واضح يجتاح هواة الاستماع للموسيقى الكلاسيكية وفنون الأوبرا وغيرها تجاه طبقة صنّاع ومستمتعى موسيقى المهرجانات وأفلام محمد رمضان واللنبى وغيرها، والعكس أيضاً صحيح.
ونصل إلى ازدراء الأديان، وهو المفهوم المقتصر على ازدراء الدين الإسلامى. والأسئلة هنا تطرح نفسها: هل الازدراء فيما يتعلق بالمعتقدات والأديان يقتصر على الدين الإسلامى؟ وإذا كانت الإجابة بـ«نعم»، فلماذا؟ وأتبرع هنا بالإجابة نيابة عن المعتقد الشعبى السائد منذ سبعينات القرن العشرين. الإجابة «نعم». والسبب هو أن الخطاب الدينى الذى هيمن وسيطر اعتبر الدينين «السماويين» الآخرين محرَّفين ومشوَّهين، وأتباعهما كفاراً. وقد تم التعبير والترويج لهذا الفكر والتفسير بطرق عدة تراوحت بين المباشرة الفجة وغير المباشرة الذكية. والنتيجة هى أن الدين الوحيد الذى لا يسمح بانتقاده أو التساؤل عما ورد فيه، وبالطبع ازدرائه، هو الدين الإسلامى، «لأنه الوحيد الصح والوحيد الجدير بالحماية والوحيد الذى يستحق أن يعاقب من يتجرأ عليه».
ليس هذا فقط، بل تطور الأمر ليصل إلى درجة أن من ينتقد تشغيل القرآن الكريم فى مكان عام بصوت مرتفع أو من يعترض على صوت الأذان المنبعث من مسجد واحد بعشرات الميكروفونات أو من يتساءل عن سبب تشغيل القرآن الكريم فى بوابات الطرق السريعة عبر مكبرات الصوت أو من يعترض على تشغيل البرامج الدينية الإسلامية فى وسائل النقل العام وغيرها يعرّض نفسه لتهمة ازدراء الدين الإسلامى، حتى لو كان هو نفسه مسلماً بل ومتديناً شكلاً وموضوعاً.
والمضحك والمبكى فى أن المعترض على وصف أتباع المعتقدات الأخرى عبر مكبرات الصوت فى مصر «المدنية» بـ«القردة والخنازير» أو «الكفار»، أو أولئك الذين يلجأون إلى خفة الدم للتريقة على غير المسلمين ووصفهم بأوصاف أقل ما يقال عنها إنها سخيفة ومتنمرة يجد نفسه هو الآخر موضوعاً فى خانة «عدو الدين».
أعتقد أن علينا أولاً أن نحل مشكلة الازدراء السارى فى مجتمعنا، ثم نصل إلى تعريف واضح ومعمول به حول إذا ما كانت عبارة «ازدراء الأديان» تخص ديناً بعينه أم أنها تتعلق بالأديان كلها. وبعدها ربما ننتقل إلى مرحلة أخرى لفهم مقومات الازدراء ولكن بعد التخلص من حالة الإنكار التى نعيشها.
نقلا عن الوطن