محمد حسين يونس

فيما قبل سن الستين كنت ارى انه يكفي البشرى أن يصل إلي مشارف السبعينيات.. و يرحل ..و أنه بعد ذلك العمر يصبح لا قيمة له ..أو نفع بل يتحول إلي عبء علي الأبناء و الأقارب ..

و تشاء الظروف أن أتجاوز هذا العمر بعقد من الزمان .. مر علي كما لو كان عقابا.. إن السنوات العشر الماضية.. هي الأسواء
لم أصادف خيبة أمل و سقوط و خوفا .. و تنمرا بالناس .. و تزويرا للإرادة .. و فتونه و بلطجة و فرد صدر علني مثل ما حدث منذ 2010 .. حتي 2020..لم أر إستهتارا بمصالح البشر .. و تعويقا لهم .. و تجبرا .. و سحقا .. و جوعا .. و خوفا .. و إنهيارا .. مثل الذى حدث في تلك الفترة ..
 
أنا لا أخاف من الموت .. لقد قابلته يوم 8 يونيو 1967 الساعة الخامسة مساءا .. و لم يكن مرعبا .. كان يكفي أن تنحرف حركة الرصاصات المطلقة من رشاشات العدو سنتيمترات لتمزق هذه الرأس و هذا الجسد ويترك في العراء لايام وشهور تنهش فيه و تقتات علية الضوارى و الطيور الجارحة أو تحلله بكتريا الهدم و تعيد خلط مكوناته بالطبيعة المحيطة ليزيد عدد الضحايا رقما .
 
في أحيان كثيرة .. أندهش من سوء حظي الذى جعلني أستمر في الحياة بعد هذا الزمن لفترة تزيد عن نصف قرن .. أعاني فيها من كبد التواجد .. و طلب الرزق .. و أحزان الوعي بما يدور حولي في هذا المكن التعس .. و أندهش من غبائي و غرورى .. الذى جعلني أتصور .. أنه من الممكن أن أجد سبيلا نحو حياة إنسانية ممتعة .. مثل تلك التي يحياها من هم في خبرتي و سني في بلاد الواق الواق .
 
أن تعيش تحت حكم طواريء مستمر يوضع علي فمك لجام .. و تساق حيث يريد راعي البقر .. ليس بحياة .. إنما هي مجرد تواجد تافه .. لا يزيد عن التواجد الحشرى لذبابة أو حتي نحلة ..
 
ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا ..
 
فأنا لا أخاف الموت ..و لا يهمني كثيرا ما سيحدث بعدى .. إن شااللة تولع بجاز إسود وسخ قادم من أبار بترول الخليج .
 
نعم أعطيت حياتي كل ما كان بمقدورى أن أقوم به .. كطالب.. و كمهندس.. و ضابط ..و كاتب .. وفنان.. و مثقف .. و قصاص .. وباحث .. و مترجم ..و مواطن يحترم وجوده .
 
أعطيتها بصدق و حب .. و أمانه .. ولم أبخل عليها بعلم أو ثقافة أو الإبحار في المياة العميقة .. دون إنتظار لمردود..و دون أمل في شكر أو تميز .. دون ضجة .. دون دعاية .. دون عائد أني أو مرتقب .
 
أعطيت و أنا شاب .. و أنا رجل.. و أنا شيخ ..و لم أقف لأسأل .. لماذا ؟؟
 
إنه مسار إجبارى قطعته أجرى و أنهج منذ أن حصلت علي بكالوريوس العمارة من جامعة عين شمس في يونيو 1962 ..
 
و حتي اليوم .. لم أتوقف عن العمل و العطاء و لم أبخل بجهد أو خبرة .. و لم أمنع عن الأخرين ما تعلمت .
 
لدى صفحة علي الحوار المتمدن زارها حتي الان ثلاثة و ربع مليون زائر .. و عليها .. ما يقرب من أربعمائة و ثلاثين مقال .. كلها حول التاريخ و الفلسفة و التطورات السياسية
 
كما ان لي عدد 15 كتاب ..ولي الفين مقولة يومية علي حائطي في الفيس بوك لم اتوقف عن كتابتها منذ سبع سنوات او اكثر .. بمعني انني مكشوف تماما فكريا أمام من يريد ان يعرفني ,,
 
شاركت في ثلاثة أو اربعة حروب لو حسبنا إقامة ملاجيء ما بعد هزيمة 67 حربا (إستنزافية ) و في إقامة سد ترابي باليمن .. و تحصينات في سيناء و علي ضفاف القناة ..
 
و شاركت في تصميم وإقامة مائة مشروع مدني .. سواء بالوادى أو سيناء أو الصحراء الغربية .. و مددت خطوط كهرباء بمئات الكيلومترات في العراق و مصر ..
 
و كنت كبير الإستشاريين الذى حرص لمدة ربع قرن علي يخرج مشروع محطة الجبل الاصفر لتنقية مياة الصرف الصحي طبقا لافضل المؤشرات العالمية و أن يدار لعشرات السنين إدارة ناجحة ..
 
وحرصت علي أن أدرب عشرات المهندسين علي الاساليب الحديثة للتشغيل (ومنهم أصدقاء عديدون علي صفحتي ) ..لم أسأل يوما ماذا كسبت .. ولم يدخل منزلي مال ليس من حقي .. أو أبتلع لقمة ليست من عرق جبيني .
 
الان أنظر خلفي و أبتسم فلقد أخذت الطريق الخطأ دائما ؟؟ ..فإنتهيت إلي مستنقع أسن يعج بالضوارى .. و الحشرات المؤذية ..لقد نفرت من ترديد قصائد المدح مع الكورال العام .. و كنت دائما ما أغني خارج السرب ..فحصدت اللاشيء ..
 
فنان وقصاص غير معروف غير مقروء .. و باحث محدود القدرة و التأثير .. وكاتب ينفخ في قربة مقطوعة علي رأى أحد الأصدقاء .. و مهندس دائما ما يجلس في الصفوف الخلفية عند التكريم أو المكافأة و في الخطوط الأمامية حين يتطلب الامر جهدا و علما و خبرة أو مهارة غير متوفرة لديهم ..
 
و ضابط في جيش طبقي لا يهتم إلا بالعظام من أبنائه فوق عميد .. أما من هم دون هذه الرتبة فهم ارقام ..
 
أكره هذا المكان الطبقي ..الذى ولدت فيه ولا يرى الأبناء إلا من خلال مصفاة تمييز .. تجعل البعض سادة .. و الأخرين أتباع .
 
أتمني عندما أغادر أن تلقي جثتي في البحار العميقة لتتحلل ويتغذى عليها أسماك المحيط بعد أن إستمتع مصاصي الدماء البشرية بتفريغها من قواها طوال نصف قرن يزيد عقدا .
 
لست واثقا تماما .. كيف سيكون حال البشر بعد قرن أو قرنين .. و كيف سينظرون إلينا ..هل بكوننا فترة إنتكاس و سقوط ..أم أبطال عاشوا في وسط غير مواتي ..
 
و لا أدرى ما إذا كانت كلماتي هذه ستصمد لأيام قادمة أم ستذوب في بحر من الأحداث لا حدود لشطئانه ..
 
و لكنني أعرف أن هذه الجثة ستتحلل و تذوب في بيئة لا تحتفظ بالجثث أو بذكرى لأصحابها .. لذلك إذا ما دفنت .. فأرجو أن يكون في مكان لا يعيش فوقة هؤلاء الظلمة محدودى الفكر .. منعدمي الإحساس بالمسئولية ..الذين يختالون علينا بأفعال لم يبذلوا فيها عرقا أو فكرا ..
 
قديما قال أحمد شوقي (( إذا ما نفقت ومات الحمار ... ابينك فرق و بين الحمار )).
 
أريد أن ابق في وفاتي كما كنت في حياتي مثل الحمار ..خارج الكورال الذى يتغني بأفضال راعي البقر ..فإرموا جثتي بوسط الصحراء أو علي قمة جبل لأصبح و جبة مشبعة للضوارى ومجرد إسم في صفحة الوفايات للاهين من البشر شبه الأحياء