فاطمة ناعوت
بمجرد أن أهبط من سيارتى أمام بوابة المسرح الكبير، تبدأ الكماناتُ فى التسلّل إلى عقلى بهدوء مثل قطعة من الفراء الناعم تداعب وجهى. أخطو نحو الباب العالى، فتتأهّبُ أوتارُ الڤيولين فى أيدى العازفين، وتعلو النغماتُ شيئًا فشيئًا، مع ارتفاع عصا بيتهوفن، فأشاهدُ، بعيون خيالى، طاقمَ الكورال فى خلفية الأوركسترا، ينهضون عن مقاعدهم، وفى يد كل منهم دفتر أشعار «فريدريك تشيللر»، مفتوحًا على قصيدة «أنشودة الفرح»، ثم يبدأ الصوليست بصوته الجهورى الباص يُنشد:

«أيها الأصدقاءْ/ اتركوا هذا النشاذَ الصاخبْ/ وبدلًا منه/ تعالوا نُشعلُ الكونَ بلحنِ البهجةِ والفرح/ الفرح/ الفرح/ أيتها الفرحةُ/ أنتِ شرارةُ السماءِ الجميلة/ أنت طفلةُ الجنّة/ ندخلُ بكِ الفردوسَ نشتعلُ حماسةً/ نغدو كائناتٍ سماويةً/ نرنو إليكِ لأنكِ ملاذُنا القُدسىّ الأخير/ سحرُكِ الخاصُّ يلملمُ ما تشظَّى فينا بقسوة/ بمعاول التقاليد والأعراف/ كلُّ البشر سيغدون إخوةً/ حينما يحوّم فوقنا جناحاكِ الرقيقان/ المحظوظُ الذى وجدَ صديقًا/ والسعيدُ الذى وجد زوجة حبيبة/ فلينضمُّوا إلينا فى أنشودة الثناء/ نعم/ بينما مَن يظن أن الأرض كلَّها لا تسعُ إلا روحه/ مَن لا يقدرُ على الحبّ/ فليتسللْ بعيدًا عنّا/ وليغرقْ فى دموعه/ كلُّ المخلوقاتِ تشربُ الفرحَ من ثدى الطبيعة/ الطيبون والأشرارُ على السواء/ يتبعون دربَ الزهور الذى تغزله لنا الطبيعةُ/ تمنحنا القبلاتِ والنبيذَ/ وتمنحُنا الصديق الوفىَّ/ حتى فى لحظةِ الموت/ حتى الدودة الضئيلة منحتها الطبيعةُ أمنيةً/ فيقفُ ملاكٌ صغيرٌ يتضرّع أمام الله/ بحبورٍ وبهجة/ مثلما تتسارعُ شموسُ الله فى أرجاءِ الأفق الهائل/ كذلك أنتم/ أيها الإخوة/ يجب أن تؤدوا أنشودتَكم/ بفرح/ مثل بطلٍ منتصر/ تعانقوا أيها الملايين/ قُبلةٌ سماوية لكلِّ العالم/ لأن فوق مِظلّة النجوم تلك/ لابد يسكنُ أبٌ محبٌّ/ هلّا انحنيتم أمامَه أيها الملايين البشرية؟/ هل تشعرون بخالقكم/ يا أبناء هذا العالم؟/ ابحثوا عنه فوق مظلّة النجوم/ فلا شك أنه يسكنُ خلف النجوم».

الآن وصلتُ إلى مقعدى بالمسرح الكبير وسط الجمهور الحاشد مع آخر كلمة من القصيدة، وآخر نغمة من الحركة الرابعة من أعظم سيمفونيات التاريخ. يُنزلُ بيتهوفن عصاه، فيهدرُ شلالُ التصفيق مثل طوفان، حتى يهدأ، فأعتدل فى مقعدى وأغلق بابَ خيالى، وأبدأ فى فتح مسامّ عقلى وخلايا جسدى لأستعد لشلال النور القادم من خشبة المسرح.

هذا بالضبط ما يحدث لى مع كل زيارة لحبيبتى «دولة الأوبرا»، التى تطلقون عليها «دار الأوبرا المصرية»، إذْ أراها «دولةً» مكتملة الأركان.

لماذا بالتحديد «أنشودة الفرح» والحركة الرابعة من السيمفونية التاسعة؟ لستُ أدرى! ربما لأننى فى الأوبرا أغتسلُ بالفرح من أوجاع الزمان. ربما لأننى أرى أن البشر أحيانًا يجتهدون فى قتل الفرح لسبب مجهول! ربما لإيمانى أن على الإنسان أن يؤدى جميع واجبات يومه بفرح حتى نستحق أن نكون عبادًا لهذا الإله العظيم الذى منحنا الحياة والفرح. نعبد اللهَ بفرح. نؤدى أعمالنا بفرح. نحبُّ الوطن بفرح. نحافظ على مصر بفرح. ندلّل أولادنا بفرح. نربّيهم ونعلمهم بفرح. نحبُّ جيراننا بفرح. نساعدُ الفقير والمريض والموجوع بفرح. نكتبُ بفرح. نقرأ بفرح. نصّرُ على منح الفرح ولو لشخص واحد كل يوم. نحبُّ بفرح ونلفظ أى لمحة من دنس أو كراهية تسللت إلى قلوبنا ذات غفلة.

يوم 10 أكتوبر، أتمَّت «دولة الأوبرا» الجميلة عامها الثانى والثلاثين، فشكرًا لكل مَن وضع طوبة فى هذا الحصن التنويرى الهائل، حصن الفرح البهىّ، لأنه يمنحنى الفرحَ كلما اخترقت قلبى الهمومُ والكدَر. اليوم حقٌّ علىَّ أن أقول:

كل سنة وأنت طيب أيها الخديو إسماعيل، لأنك مَن شيّد لنا أول دار أوبرا مصرية عام 1869.

كل سنة وأنت طيب يا إمبراطور اليابان الذى أهدانا دار الأوبرا الجديدة، بعد احتراق الأولى عام 1971.

كل سنة وأنت طيب أيها الرئيس محمد أنور السادات لأن قرار إنشاء دار الأوبرا الجديدة كان فى عهدك، حتى وإن لم تحضر افتتاحها عام 1988.

كل سنة وأنت طيب يا كل شخص يعمل فى دولة الأوبرا الجميلة، لأنكم تمنحوننا الفرح.

كل سنة وكل خشبات مسارح الأوبرا طيبة، وكل مقعد وكل مصباح وكل آلة موسيقية وكل ستارة وكل بساط وكل طوبة شرفة وكل قطعة ديكور بخير وفرح.

وفى الأخير، كل سنة وأنتما طيبان يا د. إيناس عبدالدايم، ويا د. مجدى صابر، لأنكما تجهدان لتقديم الخوالد التى تملؤنا بالفرح فى دولة الأوبرا المصرية، حتى فى أحلك اللحظات العسرة التى تمرّ بها مصر. وكل سنة ومصرُ جميلة، ودار الأوبرا مصابيحُها تنثرُ الفرح. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يُنير مشاعل الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم