الأحداث تتدافع والأولويات تفرض نفسها حتي أن بعض الملفات المهمة التي طال انتظار البت فيها يتم تنحيتها جانبا أمام ملفات أخري تباغتنا وتسرق الأضواء… وها هو ملف لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين يخرج خارج دائرة الضوء -رغم أهميته وإلحاحه- أمام تحديات تجابه الوطن مثل قضية سد النهضة الإثيوبي, وقضية الأزمة الليبية, وقضية وباء كورونا, علاوة علي بدء مسار انتخابات مجلس الشيوخ… هذه وغيرها من القضايا والتحديات الوطنية التي يتحتم التصدي لها.
كان آخر ما تناولته في هذا المكان عن لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين في بدايات شهر مارس الماضي حين استبشرت خيرا عقب اكتمال اعتماد الكنائس الثلاث الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية لمسودة اللائحة ولم يعد يبقي في الأمر سوي إرسالها إلي الحكومة لتتولي بدورها إعداد مشروع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين وإرساله إلي مجلس النواب لمناقشته واعتماده وإصداره تمهيدا للعمل به.
ولا يخفي علي الكثيرين أنه بالرغم من احتواء هذه اللائحة علي أبواب وبنود كثيرة تتصل بكافة جوانب الأحوال الشخصية والأسرة المسيحية, إلا أن لي تطلعا أساسيا يحدوني الأمل لإدراكه وهو تضمين اللائحة باب المواريث الذي يرسخ المساواة التامة بين المرأة والرجل في أنصبة المواريث طبقا للتشريع المسيحي… لأن تلك المساواة ظلت لعقود طويلة محل لغط وضبابية وعدم حسم أدي إلي شيوع مبدأ إن للذكر حظ الأنثيين وما نتج عن ذلك من الإضرار بالمرأة المسيحية واستباحة حقوقها وجرح كرامتها… ولازلت متفائلا بأن إدراك هذه المساواة بين المرأة والرجل في لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين حتما سوف يعلي الأمل بأن يعقب ذلك تشريع مماثل ينسحب علي الأحوال الشخصية لإخوتنا المسلمين حتي تلحق مصر في هذا الصدد بتونس التي أقرت حكومتها في 23 نوفمبر 2018 مشروع قانون للمساواة بين النساء والرجال في أنصبة المواريث وإحالته إلي البرلمان لإقراره.
وبينما نحن في انتظار صدور لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين, أترقب -ولا أغفل- أية علامات مضيئة تمهد الطريق لهذه العدالة التي طال انتظارها… فكلما صدرت أحكام قضائية تؤيد المساواة بين المرأة والرجل في الميراث أسارع باستعراضها وتسليط الضوء عليها… صحيح أن بعضها ينطوي علي ملابسات خاصة بأطراف الدعوي القضائية التي أفرزت الحكم, لكنها تظل بمثابة انفراجة لسائر الحالات المماثلة إلي أن تصدر اللائحة وتعم علي الجميع… سبق أن تناولت ذلك في يونية 2019 -منذ ما يزيد علي العام- حين أصدرت محكمة استئناف القاهرة الدائرة (158) أحوال شخصية حكما نهائيا يقضي بالمساواة بين الرجل والمرأة المسيحيين الأرثوذكس في الميراث عملا بنص المادة الثالثة من الدستور وكذا بنص المادة (247) من لائحة الأقباط الأرثوذكس… وجاء في حيثيات الحكم أنه طبقا لنص المادة المذكورة إذا لم يكن للمورث فرع ولا أب ولا أم فإن صافي تركته -بعد استيفاء نصيب الزوج أو الزوجة- يؤول إلي إخوته وأخواته ويقسم بينهم حصصا متساوية متي كانوا متحدين في القوة (أي كلهم إخوة أشقاء) لا فرق في ذلك بين الأخ والأخت.
وها هي محكمة الاستئناف تعود لتصدر حكما مماثلا…
وكان ذلك بتاريخ 20 مايو الماضي بعد أن نظرت محكمة استئناف القاهرة -الدائرة (8) لشئون الأسرة- دعوي مرفوعة بخصوص منازعة حول أنصبة المواريث بين إخوة وأخوات أشقاء, وبعد نظر الدعوي حكمت المحكمة بتأييد الحكم المستأنف ضده والسابق صدوره بإشهار الوراثة رقم (1797) لسنة 2015- أسرة مدينة نصر- والذي نص علي إثبات وفاة السيدة المسيحية (م.ي.ب) وانحصار إرثها الشرعي في زوجها (م.ث.ح.) ويستحق نصف تركتها وفي أشقائها -ثلاثة ذكور وأنثيين- ويستحقون باقي تركتها بالتساوي بينهم للذكر مثل حظ الأنثي دون شريك ولا وارث لها سواهم…
وأسست المحكمة قضاءها علي نص المادة الثالثة/2 من القانون رقم (1) لسنة 2000 التي نصت علي أنه تصدر الأحكام في المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية بين المصريين غير المسلمين المتحدي الطائفة والملة الذين كانت لهم جهات قضائية ملية منظمة حتي 1955/12/31 طبقا لشريعتهم فيما لا يخالف النظام العام… وبناء عليه تكون لائحة الأقباط الأرثوذكس واجبة التطبيق طبقا لنص المادة (247) منها التي تنص علي أنه إذا لم يكن للمورث فرع ولا أب ولا أم فإن صافي تركته بعد استيفاء نصيب الزوج أو الزوجة يؤول إلي إخوته وأخواته ويقسم بينهم حصصا متساوية متي كانوا كلهم إخوة أشقاء لا فرق في ذلك بين الأخ والأخت.
هذه حالة أخري يعيد فيها قضاؤنا الشامخ تأكيد المساواة في المواريث بين المرأة والرجل المسيحيين… وفي انتظار صدور لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين بإذن الله… مع استمرار الأمل في أن تلحق مصر كلها بركب المدنية والحداثة بترسيخ تلك المساواة للمرأة المصرية بشكل مطلق.