مفيد فوزي
حتى لا يتبادر للأذهان أنى تلقيت أمرًا من سلطة، أو من هيئة أو من رقيب أو نقيب، فإنى أعترف بأن الأمر جاءنى من طبيب الحنجرة والأحبال الصوتية وسيّدها الأستاذ الدكتور ناصر قطبى، وهى تجربة من المهم أن أكتبها وأحكيها للناس، فكل واحد منا مُعرّض لأن يعيش التجربة بحذافيرها فى زمن الزحام والقنوط والضجر والحبس الإرادى بسبب الكورونا!

■ ■ ■

تعودت أن أصحو من نومى يوم الجمعة على راحتى، فهو اليوم الذى أستيقظ فيه فى الحادية عشرة، ثم أفتح باب شقتى وألتقط الصحف من كيس نظيف خصصته للصحف والمطبوعات والخطابات وكأنه صندوق بريد. ثم أذهب للمطبخ وأعدّ لنفسى فنجان شاى، ذلك يوم إجازة مديرة البيت. أعلم- من تجربة طويلة- أن نوم ساعات الفجر هو النوم العميق الذى يصفه شكسبير بالسعادة، وفى ذلك اليوم دق جرس الباب فى السابعة، فظننت أننى أحلم وواصلت النوم ولكن الجرس دق بتواصل محموم ويسامحنى الله، فقد ظننت أنهم «زوّار الفجر»، جاءوا للقبض علىَّ بسبب تأويل مقال أو تفسير خاطئ لرأى نطقت به على شاشة النهار التى أظهر عليها كل أربعاء، لكنى رفضت فكرة زوار الفجر، فقد كان هذا التقليد من سمات عصر عبدالناصر، وذهب ذلك الزمان وصار القبض على متهم ساعة الضحى، باستثناء أخطاء فى تطبيق الأوامر! المهم، توالت دقات أجراس الباب بصورة مزعجة أيقظتنى وأنا غاضب. حانق! وفتحت الباب ببطء، فمن يدرى أن يكون الطارق واحداً من الأشرار. وقلت: مين؟ مين؟ ولكن أحداً لم يرد، فخشيت أن أفتح الباب وأتعرض لمكروه. وقبل أن أعود لسريرى دق جرس الباب بعنف، فذهبت أفتح الباب وأنا نصف نائم، ولكنى غامرت، وحين فتحت الباب وجدت رجلًا أربعينيًا يقول لى بصوت مبحوح كأنه فحيح: «شهرية الزبال»، ووجدت نفسى أصرخ فى وجهه، وكدت أصفعه قلمًا أو أدفع به فى اتجاه السلم، ظللت أصرخ وهو يستقبل سيل شتائمى بوجه كالح، وظللت أردد: ده وقته.. ده وقته.. وهو جامد الملامح، صامت. ثم أغلقت الباب بعنف. ويبدو أنى استخدمت حنجرتى خطأ، فقد صحوت من نومى فى اليوم التالى وصوتى يعلوه «تراب». إنه صوت فيه حشرجة واستعنت ببعض الأصدقاء الذين بادرونى: مال صوتك؟ عندك برد؟! ونصحونى بحبوب استحلاب أو أكواب الينسون الساخن! ونفذت النصائح ولا فائدة!

■ سيناريو إلهى، قادنى لأن أبحث عن رقم د. ناصر قطبى، سيد أمراض الحنجرة، فاتصلت به بصوت مبحوح وقلت له: أستحلب أقراصًا خالية من السكر وشربت ينسون بما فيه الكفاية. قال لى بصوت العِلم: هذه الوصفات الشعبية من الشفويات. تعال غدًا لأرى «أشعة على الحنجرة»، وما كدت أسمع كلمة أشعة حتى دب الخوف فى قلبى!

نعم لى تجربة سابقة منذ سنين، تعبت حنجرتى «من أمراض مهنة المذيع»، فضلًا عن أنى أتلذذ بطريقة السرد ويطلقون علىَّ: حكَّاء!

وقد كشف د. ناصر منذ سنوات أنه لا بد من عملية جراحية فى مدينة ليون الفرنسية وأمر الرئيس الأسبق مبارك بسفرى وعلاجى على نفقة الدولة، وسافرنا أنا والراحلة آمال العمدة وحنان ابنتى التى غامرت بسنة دراسية، وعشنا فى ليون وكنت أتعامل معهم بورقة وقلم!

وبعد أيام عشرة، لم يثبت أن الحويصلة التى ترقد على الأحبال الصوتية تنذر بأى خطر.

تذكرت الحدوتة وأنا ذاهب صباح الأحد إلى مستشفى عين شمس التخصصى ومعى ابنتى حنان التى كنت ألمحها تتمتم بالصلاة.

ودخلت غرفة وكانت التعليمات ألا أتناول شيئًا حتى فنجان الشاى، جلست أمام الطبيب الشاب الإخصائى وامتثلت للتعليمات. من عادتى أن أُغمض عينىَّ أمام الطبيب، فلا أحب أن أرى الآلات الطبية! قال لى بأدب بالغ: طلع لسانك بره! كانت هناك ثلاث طبيبات شابات يشاهدن المشهد كجزء من التدريب. لم أر ماذا يفعل الطبيب الشاب الذى كلفه د. ناصر قطبى بأن يقدم له صورة بالأشعة من كل الجوانب. وأدخل الدكتور ماسورة طويلة فى حلقى، ولما لم أحتملها طلبت منه «بنج موضعى»، وفعلًا أدخل الماسورة التى تنتهى بعدسة مضيئة تنقل الصورة الكاملة لعالم الحنجرة والأحبال الصوتية. وبعد أربع مرات لإدخال الماسورة الطبية حلقى ويأمرنى بالتنفس من فمى وأردد كلمة آه ثلاث مرات- نظر لى مبتسمًا وقال: افتح عينك، خلاص.

وجاء البروفسير ناصر قطبى ورأى الصور الأربع على المونيتور وقال لى: براءة يا أستاذ مفيد! فرحت كطفل، فما أغلى الصحة، وما أثمنها! ثم أصغيت له.

■ قال د. ناصر قطبى، سيد أمراض الحنجرة والأحبال الصوتية:

١- لا تشرب ماءً مثلجًا بعد استيقاظك من النوم.

٢- يراعى صوتك فى الحديث «الأقرب للهمس».

٣- تحاشَ النقاش وسط زحام مكان، فتضطر لأن ترفع صوتك.

٤- الصوت العالى المفاجئ يصيب الأحبال الصوتية بعطب، فاحذره.

٥- فى حالتك التزم الصمت وأغلق التليفون وتعامل بالإشارة.

٦- لابد من أيام يقل فيها الكلام بشكل ملحوظ لتستعيد كفاءة صوتك.

٧- قبل ظهورك على شاشة التليفزيون، يراعى الصمت طويلًا لساعات، لعلك تعرف أن صديقك عبدالحليم حافظ كان يلتزم الصمت قبل الحفل طويلًا ونجاة الصغيرة تتعامل بالإشارة قبل موعد الحفل. ولعلك تعلم أن الست فيروز تنام قبل الحفل وتغادر بيتها «صموتة» حتى تظهر أمام الجمهور، وتعلم أن أم كلثوم فى أيام الحفلات تنام القيلولة وتصحو فى السابعة على حمام دافئ وفنجان من النعناع الساخن، ولم تشرب أم كلثوم ماءً مثلجًا حتى فى عز الصيف!

٨- هكذا يحافظ فرسان «الكلام»، المطرب والمذيع والمحامى والمدرس، على الحنجرة والأحبال الصوتية.

٩- التزم الصمت من الآن! اهمس بما تريد فى أضيق الحدود!

الشأن العام
■ السؤال طائر الشوق للمعرفة فوق أغصان الحيرة. إنه صهيل الجوع إلى الفهم وأحيانًا السؤال فى السياسة ممنوع من الصرف!

■ موضوعان أتصور أنهما محل اهتمام الحكومة: الماء والسكان.

■ عندما تحدق فى الأشياء، الناس والكون ومسرح البشر، فقد تتعب والأفضل ألا تجعل من نفسك «مهندس إنسانية».

■ نعم، مهنتى: مسحراتى بالكلمة وأدق طبولى ليستيقظ الناس!.
نقلا عن المصري اليوم