محمود العلايلي
فى سنوات تقارب قرنًا من الزمان حدثت ثورات بشرية متباينة، فبعد الثورة العلمية باكتشاف نيوتن قوانين الجاذبية فى بداية القرن الثامن عشر جاءت الثورة الفرنسية فى أواخره، وتبعتها الثورة الصناعية الأولى فى بدايات القرن التاسع عشر، حيث صارت التطبيقات العلمية حية أمام الناس ولم تعد حبيسة المعامل ومقتصرة على تناول النخبة فى الجامعات وقاعات البحث، وقد وجدت الثورة التى صدرت لأنحاء أوروبا صدى لها فى بعض البلدان أسفرت عن بدايات لديمقراطيات ناشئة عن طريق الحكومات البرلمانية التى يتم انتخابها مباشرة من المواطنين، ومع أن هذا الطريق صادف معوقات كثيرة بداية من فرنسا التى تراوح الحكم فيها بين جمهورى وإمبراطورى إلى عدة ثورات أخرى فى بلاد متعددة فى منتصف القرن حتى استقرت أغلب البلدان الأوروبية على الحكم الديمقراطى حتى وإن تمسك بعضها بالشكل الملكى الرمزى.

والحقيقة أن التطبيقات العلمية فى الصناعة وتطورها بشكل مستمر وتنوع استخداماتها أعطى انطباعا سائدا بأن الحياة تتطور، وأن الدنيا تتحول من حال إلى حال، وأنه ليست هناك نظرية ثابتة ولا هناك ماكينة عصية على التطوير، فى الوقت الذى بدأت الديمقراطيات فى الاستقرار، وشاهد المواطن بنفسه تأثير اختياره المباشر، وتأثير النقابات التى تمثله على اختيار حكامه مما أهل جميع المواطنين لأن يوقنوا أن لأى منهم فرصة فى الترقى السياسى إذا كانوا مؤهلين لذلك، كما تأكد لهم أنه لا أحد من الحكام يجلس على كرسيه إلا بقدر ما ينال من ثقة المواطنين فى صندوق الانتخابات حتى صار التغيير هو القاعدة فى منظومة لا يعرف نتيجتها أحد مقدمًا إلا فيما ندر.

إن الاحتياج المستمر للتقدم هو ما يدفع الإنسان للتطوير، وهو ما يستلزم الالتجاء للبحث العلمى الذى يعتمد التشكك والتساؤل، فى اعتراف صريح أن الموجود ليس كاملا وأن الابتكار صار لازما، كما أن التغيير فى المجال السياسى أصبح آلية متكررة المفهوم منها أن المواطنين فى حاجة دائبة لتغيير الوجوه والأفكار حتى فى حالة نجاح الوجوه والأفكار الموجودة فى كثير من الأحيان.

إن اليقين بأن الحال على أفضل حال من أسوأ ما يصادف التطور البشرى لأنه دعوة غير مباشرة للارتكان للأوضاع الحالية، كما أن هذا اليقين يمنع أى نوع من الرغبة فى تغيير الواقع، وهو ما نراه بشكل واضح فى مجتمعاتنا الشرق أوسطية، حيث يتبادر لدى أغلبنا مفاهيم متوارثة عن سيادة أخلاقياتنا وتقاليدنا عما سواها من الأخلاق والتقاليد، وتتوارث الغالبية مفاهيم عن سيادتنا للعالم من باب التاريخ والدين السائد، كما تسود أنظمة حكم لا تسمح بالتفكير الديمقراطى ومشتملاته، وبالتالى يتوارى خلف كل هذه المعطيات أى رغبة حقيقية فى التقدم العلمى بامتلاك العلم وأدوات البحث فيه، مع الاقتصار على المنافسة فى استيراده والتفاخر باستخدامه فقط.

إن الشعور بالنقص وعدم الاكتمال صار واجبا، كما أن الحاجة للتطور لم تعد اختيارا، ولذلك ما يجب نسفه هو اليقين بأننا متقدمين والتفاخر بأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، وذلك لأن العالم المتقدم لا يعذر الضعفاء، كما أن قوانين الحياه لاتقوم على خلق المبررات والتوارى خلفها، بل تقوم على تحليل قوانين الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان، وتقوم على دراسة النفس البشرية وتقويمها لمصلحة الشخص ومن حوله، كما تقوم على تكافؤ الفرص بين البشر للوصول لأفضل النتائج، فى عصر يرتكز على قوانين الذكاء الاصطناعى وقواعد البيانات الضخمة، وهى آليات لا يمكن أن تقوم بها إلا العقول المتحررة غير المتيقنة من خطوتها التالية إلا بقدر ما تحققه التجربة العلمية بنسبة الصواب والخطأ واحتمالات النجاح والفشل، تاركة اليقين للمتمسكين به يترنحون فى أوهامه ويتمرغون فى أحلامه.
نقلا عن المصري اليوم