نجيب محفوظ

أبى...أهمس اليك قلبا و عقلا... أن تهجر صمتك...أن تعبر غضبك...أن تهدم الجسور التى بناها الزمن فوق حطام حبك...أن تدمر الحصون التى شيدها الماضى حول قلبك...لست أطلب منك ما ليس فى استطاعتك...و لكننى على ثقة من أن لديك ما تتحدى به العواصف التى تعصف بسفينة حياتنا...و تقهر به الأمواج التى تغرق وجداننا فى بحور الأهات...
أبنك
 
طويت الخطاب عندما سمعت أحد الجنود ينادينى:"القائد يريدك أن تذهب اليه فى أسرع وقت "...لم أتسائل و لم أتردد...و لكننى ذهبت...القائد: "أعرف أنك فى دهشة من أمرى...و لكن الحرب لن تعوقك أن تلبى النداء."
 
أصطحبت الصمت فى سفرى مع الليل...أعبر الجبال و الصحارى...أراقب نجم السماء بضوئه الذى كان يشع ومضات تخفق مع نبضات القلب خفقات حادة...عند صياح الديك كنت قد وصلت إلى المدينة...فقصدت بيته قارعا بابه...ففتح لى الأب الكاهن...همست إليه ببعض الكلمات ثم ودعته قاصدا المنزل...أستقبلنى أحد الأطباء...جلس متحدثا معى...ختم حديثه بقوله: "لا يتبقى له سوى بضع ساعات!"...ثم أصطحبنى الى حجرته...ظللنا فى إنتظار أن يفيق من الغيبوبة...طال الإنتظار حتى حضر الأب الكاهن و أخذ يتحدث...قطع الحديث صوت متهدج ينادينى...فألتفت اليه...وجدته قد بدأ يفيق...ترقرقت دموعى...أسرعت إليه أحتوانى بين ذراعيه...روى ظمأى بدموعه معتذرا عما بدر منه من أخطاء فى حقى...أستوقفته قائلا: "أنا الذى أعتذر لأننى أنا الذى أخطأت...و لكن دعنا نغتنم أغلى وقت فى حياتك...فهل تريد أن تستعد لأبديتك؟"...أشار الى بالأيجاب...قبلت يديه و جبينه و تركته مع الأب الكاهن حتى يقدم توبة و اعتراف على يديه ثم يتناول من الأسرار المقدسة...أسدل الليل الحالك السواد ستاره...عندما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة...بكيته بكاءا شديدا...جاءنى الطبيب كفكف دموعى و طلب منى أن أتخذ الأجراءات اللازمة قبل السفر...أجبته : "أننى لا أستطيع أن أفعل شيئا"...سألنى: "لماذا؟!...جاوبته: "لأننى لست أبنه"...وقع ردى عليه كوقع الصاعقة...عقد لسانه و لكننى أجبت عن باقى الأسئلة التى رأيتها تتصارع فى عينيه.
 
أنا جندى مثل أبنه...أستدعانى القائد عن طريق الخطأ...و حدثنى على أننى أبنه قائلا أنه كان يرفض فى البداية أن يلبى طلب أبى الذى يريد رؤيتى قبل أن يغادر العالم...لأن رحى الحرب لا تزال تدور...و لكن شىء قوى جعله يقبل و يأذن لى بالسفر...تسائلت: "هل هذا الأب يحتاج الى رؤية أبنه فقط...أم أنه يحتاج الى الحياة الأبدية؟!"...و ها أنا ذا قد أجبت السؤال و لا يبقى لى سوى العودة و الرجوع الى ميدان المعارك.