كتب : مدحت بشاي
Medhatbe9@gmail.com
 
في هذا المناخ الذي راح فيه الفنّ يبحثُ عن الوجود الفاعل والمؤثر بعد أن شوَّهها التّجريد، بسبب إنفكاك الرّابطة بينه وبين الإيمان، جدير بيّ أن أُذكِّر، وفي خُلاصة للموضوع، بالنّداء الذي أطلقه البابا يوحنّا بولس الثاني في رسالته إلى أهل الفنّ:
 
"إنّني أدعوكم إلى إعادة إكتشاف عمق البعد الرّوحي والدّيني الذي كان على الدّوام ميزة الفنّ في أسمى تعابيره. إنّني ومن هذا المنظور أتوجَّه بالنّداء إليكم، يا فنّاني الكلمة المكتوبة والمنطوقة، والمسرح والموسيقى، والفنون التشكيليَّة وتقنيّات الإتّصال الأكثر حداثة. وبندائي أخصُّكم أنتم، أيّها الفنّانون المسيحيُّون: إلى كلٍّ منكم أودّ أن أُذكِّر بأن الحلف القائم أبدًا بين الإنجيل والفنّ يستتبع، أبعد من الضرورات الوظيفيَّة، الدعوة إلى التوغُّل، بحدس إبداعي، في سرِّ الله المتجسِّد، وفي الوقت عينه في سرِّ الإنسان".
 
يمثل الفن إبداعا بشريا وصنعا لأثر طابعه الجمال وغايته المتعة، وهو إذ ينطلق من الذات لإبداع أشكال تعبيرية مبتكرة سواء بالرسم أو النحت أو النغمة أو الكلمة أو الرقصة، يتخطّى كل الضوابط الموضوعية ـ غير الجمالية ـ ويسعى إلى اكتساب شرعية استثنائية، يمنحها إياه طبيعته المتمردة وفورته القادمة من الأعماق. من هنا يعدّ الفن حرية خالصة، لا تستمد شرعيتها من خارج العمل الفني أو من أية قواعد غير قواعد الإبداع الجمالي، فأصبح الفن لذلك المجال الذي يمكن فيه للكائن البشري التعبير عما يستعصي قوله أو كشفه في المجالات الأخرى التي تحددها الضوابط الإجتماعية والأخلاقية و الدينية. 
 
ويمثل الدين (بالنسبة للمؤمنين به) أحكام السماء المطلقة التي تضع الحدود وتحدّد الضوابط والأوامر والنواهي، وتحدد بوضوح مناطق الإباحة والتحريم، فجوهر الدين هو السعي إلى وضع منظومة الحياة في صيغ مطلقة ومنظومة إطارية تستمد شرعيتها من أنها "ليست بشرية"، مما يحتم الخضوع التام لها في جميع المرافق والمجالات وعدم وضعها موضع نقاش أو ريبة أو مراجعة، و تحكم ذلك غائية تربط الفضيلة بالعبادة، و تشدّ كل القيم إلى بؤرة المعتقد الذي هو الوسيلة و الغاية و السلطة التي تعمّ كل الفضاءات.
 
 بينما يمثل الفن في جوهره تمردا على كل نمطية، وسعيا إلى فك شفرة الحياة الأكثر تعقيدا، واستكشاف بواطن الإنسان المليئة بالمفارقات والمناطق المعتمة، والتي يقدم عنها الدين أسهل الأجوبة وأكثرها يسرا، لكنها قد تقابل من البشر بشكل عام والفنان بشكل خاص بقلق السؤال وشغف البحث ومغامرة الإستكشاف والتجاوز.
 
ورغم أنّ الدين كان مرتبطا بالدولة في القرون السابقة في مختلف بلدان العالم، قبل أن تخطو االبشرية خطوتها الكبيرة بتجاوز نموذج الدولة الدينية في اتجاه التحرر من وصاية الدين على أفعال البشر وعقولهم ومؤسساتهم الاجتماعية، إلا أن الفن لم يخضع قط للوصاية، بل سعى بكل الطرق المباشرة والرمزية إلى التعبير عن ذاته ليس من خارج مجال المقدس فقط بل من داخله أيضا عندما دخل الكنيسة نفسها وخلق أنواعا من الفنون في الرسم والنحت والغناء والعزف على الآلات الموسيقية، وشكل معاييره الجمالية على الضوابط الدينية بشكل باهر كما هو الشأن في كل أشكال التصوير الحر، وفي أشكال زخرفة الكنائس..
 .