قصة قصيرة تأليف – روماني صبري 
 
كساعة حائط قديمة تعطلت ماكينتها، فلم يعد يسمع دقات عقاربها، بات يبدو الطفل فريد الآن، حين تبصرونه لربما شرع أحدكم يقول: حقا غادرته معاني الطفولة إلى غير رجعة، وهذا كافي لتذكيره بأنه يعاني تجربة قاسية، يحب فريد لعب كرة القدم، وحين تطأ أقدامه ملعب المدرسة، لسرعان ما تدب فيه الحياة والمتعة والإثارة، حتى وان لعب منفردا، ومرد ذلك إلى مهارته الفنية حتى وان بدت بسيطة، ذات يوما راح يلعب في الشارع، بعد انتهاء اليوم الدراسي، وقتها أدرك موهبته لأول مرة، السيد محمد لطفي، الذي يدرس له مادة العلوم في الصف الثاني الإعدادي، فسعد كثيرا وراح يبتسم وهو يقطع شارع المدرسة في طريقه لمنزله، ثم قال في نفسه : يبدو ان فريد الماكر يقوم بتدريبات مكثفة، جعلته يتمتع بكل هذه المهارة، هيا يا محمد عد إليه قل له ما يشجعه ويدعمه، هيا أيها الحقير قف بجانب هذا الموهوب.
 
 بالفعل مضى صوبه، وحين وصل إليه ناداه :" فريد تعالى، فلبى الصغير، فاستطرد محمد لطفي يقول بعدما وضع يده اليمنى على كتف الصغير : أرأيت المعاناة التي كابدها زملاءك ورغم ذلك عجزوا عن اخذ الكرة منك"، عانى الصغير خجلا شديدا من إشادة المعلم فلبث صامتا، وعلى حين فجأة التفت لطفي لوجه الطفل الذي اكتسى بزرقة المرض، والمجهود الشاق الذي يبذله ليتنفس، فلما سأله بنبرة حزينة: هل تعاني مرضا يا فريد، أجابه : نعم .. مرضا مزمنا في الصدر، ولطالما حذر طبيب الصحة والداي مرارا بإبعادي عن أي مجهود، حتى لا أموت، لكن على أي حال سأظل العب الكرة، مهما يكن من أمر، سأواصل اللعب ولأموت، ولتعلم يا أستاذ محمد أن هذه اللعبة ترفه عني وتسعدني، وعلى اثر حديث الصغير اعترت الخيبة وجه المدرس فراح يقول في نفسه :" حقا أنها وكسة، لماذا يعاني طفلا في مثل عمره تجربة بتلك البشاعة، ألا يكفي انه فقيرا ؟!. .
 
في تلك اللحظة كانت أصوات التكاتك والمركبات وأقدام المارة تجتاح الأجواء كالنيران في الجحيم، فعبر عن غضبه جراء ذلك موظف الحي الأنيق الأستاذ حسن شاكر، وهو يتابع سيره قائلا : ما كل هذا القرف، اللعنة على هذه المدينة، أنها سيئة تحرق الدم كعند زوجتي، حسنا لأتابع المشي فان وصلت محل عملي متأخرا، لجعلتها الإدارة فرصة لتسريحي، لأنني بغيض، كما يقول أستاذ عبد الحميد، كونني اعلق على كل شيء، حتى الأشياء التافهة، ولماذا وصفتني زوجتي بالجبان، هل مرد ذلك إلى رفضي الرشوة، فانا اخبرها بكل شيء، فهي رغم الخلافات حبيبتي وزوجتي وأم العيال، وألان أتذكر أنا الرجل الذي تجاوز عمره الخمسون القول المأثور :" اللي تعرفه أحسن من اللي متعرفوش"، ماله الحي يعني لو سرحوني، أكيد صعب أتقبل في وظيفة حكومية تأني، عشان كده هفضل أقول الحمد لله على كل شيء.
 
 لما اقترب الرجل منهما، قطع حديثه في نفسه، وراح يلقي على محمد لطفي التحية بوقار، فهز الأخير رأسه تحية له، غير مباليا، كان انشغل باله بمأساة الصغير، انحنى حسن شاكر بعدما أدرك الصغير، فقبله في رأسه، فاختصه محمد لطفي قائلا :" هل تعرفه؟، فقال :" نعم انه ولد مهذب، ثم وثب، واخذ يهمس في أذن صاحب السؤال :" والدته تأتي للحي كثيرا طلبا للمساعدات، أرجوك لو كنت تدرس له في الفصل لتكن حنونا معه، فوالده حقيرا دميما، ابعد فمه عن أذنه والتفت لذلك الصغير ونكس رأسه خجلا، عاد يقول الموظف مبتسما :" ربما نلتقي غدا بالمقهى يا أستاذ محمد  كما يحدث كثيرا، لنتبادل أطراف الحديث والذي سيذهب كالعادة صوب مصاعب الحياة وغموضها والروتين والسياسة، قال ذلك الرجل، ثم تركهما وهو يقول في نفسه : رباه لكم أتمتع بقلة ذوق لا مثيل لها، ألا يعني همسي في أذن المعلم للصغير إنني اخبره عن فقره، لعنة الله عليا وعلى أمثالي، كذلك على الفقر فهو قذرا لا يمكن إخفاؤه.
 
بالأمس تساءل الصغير وقت راحته، متى سيصنع الله معي معجزة تشفيني من مرض صدري، إذا حدث ذلك لاستحلت إلى لاعب كرة شهير في المستقبل، آه ما أحلى الشهرة والثراء، وقتها سأمطر الأموال على أسرتي، قال ذلك ثم جلس يتناول سندوتشات الفول وسكر التموين على أريكة مهترئة تضج بالغبار وحشرات البق اللعين، ولماذا سندوتشات السكر؟، تقول والدته : حتى تمنحه مزيدا من الطاقة ليواصل العمل، حيث ارتفعت أسعار الحلاوة الطحينية، والحلويات الشرقية، أتحتمل هذه الحياة ؟، منزله عبارة عن غرفة وحمام بلدي، لا أكثر من ذلك، أبصر والدته الحبلى وهي تطعم إخوته الثلاثة، ظهرت حانقة وكانت تندب حظها الأسود قائلة :" كان يوم اسود لما قابلت أبوكم وخلفتكم، اللي زيي تستاهل حياة أفضل من دي"، ياريت كنت أتجوزت حسين ابن عمي اهو عجلاتي مش صايع زي العرة أبوكم."
 
 مدد الصغير جسده الهزيل على الأريكة، مدمر النفسية، ثم أغمض عيناه، وأراد أن يشكو لكنه كتم في نفسه مستسلما، راح يسعل، جراء مرضه المزمن الذي توارثه من والداته، قال في نفسه بلهفة :" هيا انفجر في والدتك غاضبا وبخ هذه المرأة غريبة الأطوار فهي من تزوجت والدك الحقير، ثم عاد يستسلم ثانية، وكأن كل شيء يموت داخله، هو يخاف الشكوى فلو جاء والده على حين فجأة وسمعه يشكو لن يتأخر بقضم يده بأسنانه، وهو يفعل ذلك كثيرا يقول انه يربى أبناءه، وإذا عرف الموت أي منهم سيقول إكرام الميت دفنه، نحن قوم مؤمنون، لا يجب أن يبقى جثمانه بالمنزل تحت بصر أمه المكلومة، ها هو ابن لي ذهب إلى ربه، وكان شديد الأدب صافي النفس، هنيئا له الجنة إذا."
 
 استحضر الصغير في خياله ملاكه الحارس، واختصه بالقول دون أن ينبث ببنت شفة، ولما لا قلت في خياله، هل وافق الله على شفائي وانتشالي من الفقر ؟، أجابه مبتسما : نعم .. الآن بإمكانك ان تطلب ما تشاء يا فريد، أنا ملاكك الحارس، اطلب ما تشاء يا صديقي، هيا افتح عيناك لتسعدهما بمنزلك الجديد، الذي يضج بأحدث أجهزة التكنولوجيا، بالحق منذ اليوم ستكون راضيا، وجب عليك تصديق ملاكك الحارس، لطالما حدثوك عني، اقسم لك بأنك منذ اليوم ستكون راضيا تعرفك اشد الغبطة، لا كوابيس ستجثم فوق صدرك، هيا يا صغير قل للكرب وداعا، لا تجارب قاسية ستعصف بك لتحجب عنك السعادة، السعادة التي طالما حرمت منها يا حبيبي .
 
- أتقصد إنني لن اجلس بعد اليوم على الكنبة المتهالكة المستقرة منذ زمن بصالة منزلنا الفقير، بكا الملاك بمرارة ، وسمح لنفسه بتقبيل رأس فريد في حنان، قدم له اعتذار عما كابده، ثم أخذه ومضي به صوب أريكة فاخرة وهو يفتح عيناه، فلما وصلا لمعت عينان بطلنا وأشرق وجهه من أكوام الذهب فوق الأريكة، وتابع ملاكه الحارس يقول : 
 
- لن يكون الطريق مسدودا في وجهك بعد الآن، كذلك أبيك لن يرتاد خمارة على حسنين، صدقني لن تعود تصفه بالرقيع وتنظر إليه باشمئزاز، كلفت  بإسعادك يا حبيبي ويعلم الله انك كابدت اشد المعاناة، انظر أنت تتثاءب من التعب، لكن لا تقلق النقود ستتولى أمر هذا الشعور، عليك الاستيقاظ كثيرا والصوم عن النوم كلما استطعت، لتنعم بنقودك الجميلة، وأنت تحلي فمك بفاخر الحلوى أيها الطفل المحترم، نعم محترم فكلامك البذيء الذي يضج بأسماء الأعضاء الجنسية وفقا للقاموس الشعبي، لن يخرج من فمك أيضا بعد الآن، اعرف انك تجد صعوبة في النطق وأنت تلعب الكرة، ذلك أيضا لن يكون بعد اليوم.
 
في تلك الأثناء، كان انتهى والده النحيف من التسكع، طرق باب الشقة الخارجي، وهو يصدم كرشه الصغير بإحدى يديه، وفمه يلوك علكة "سمارة"، وثبت والدته وفتحت له، دخل الرجل، فردت الباب، ثم رمقته زوجته بنظرة غاضبة، كأنه شيطان العالم، قال الرجل منفعلا لزوجته حين أبصر فريد نائما، بقاله قد إيه نايم مش مفروض يرتاح ساعة بس ؟، قالت بوجه شاحب : لسه مكملش ساعة، قولي بقى لاقيت شغل، ولا كنت ماشي تبص على مؤخرات الستات في الشوارع ؟.
 
-أي حاجة كله حلو، الحياة متعبة يا أم الصبيان، زي ما بيقول المثل "لم يعد فيها خيرا، قولي يارب، وبعدين حد يخلف ذكور ويخاف، كان صوته يؤلم الصغير، الذي لم يعد يغرق في الأحلام كما في السابق، بل بات يكتب لها السيناريو ويعيشها في خياله دون أن يعرفه النوم، هربا من حياته المقرفة، بعد مرور 20 دقيقة سيثب الصغير من فوق الأريكة، حيث ستنتهي ساعة راحته، فيذهب يسرح بالمناديل في الإشارات وعربات المترو.
 
 ليته يلتقي الأستاذ محمد لطفي مجددا، حيث حين علم بمرضه في ذلك اليوم، اخرج من جيبه ورقة من فئة الخمسون جنيها ومنحه إياها، ثم اصطحبه إلى مطعم الشاروما في السوق، فجلس الصغير يأكل بنهم، وفي المساء رفع الصلاة قائلا :" أكرم يارب الأستاذ محمد لطفي، ولتغفر لي لأنني لن اعمل بنصيحته وامتنع عن لعب كرة القدم، نعم يحب الصغير أستاذه، أستاذه الذي قال له وهو يهذي ضاحكا في المطعم بعدما حدثه فريد كثيرا عن حياته : يقولون يأتي العيل برزقه، ولو زاد فقرهم، يجعلونه يسرح بالمناديل في الشوارع ومحطات المترو، حتى يأتي برزقه فعلا،  قال هذا وقد انهزم سلامه الداخلي، لكنه كتم في أعماقه، رغم أن كتمان هذه الهزائم ثقل، تحسس صلعته دون اكتراث، وجثم على صدره عبء ثقيلا، ووجد في الحديث مع الصغير هروبا من هذا الشجن، فقال له وهما يتناولان طعامهما : كل شهر بعد توقيعي في كشف المرتبات، سأصطحبك لتناول وجبة شهية.
 
واستطرد : وليرافقنا الأستاذ حسن شاكر، فهو لطيفا صافي النفس مهذبا، وسأؤكد لك حقيقة ذلك، ذات يوما كنا نحتسي فنجانين من القهوة، وعلى حين فجأة، ماتت قطة ميتة سريعة، دهسا، تحت عجلات سائق ميكروباص طائش، لم يبالي ابن الحرام بجريمته، حيث رأيناه يخرج رأسه من النافذة وهو يتابع القيادة مختصا الغاضبون من المارة :" عادي يا جدعان دي قطة، وبعدين مقصدش، بعدها مال الأستاذ حسن علي وقال وهو يهذي ويسب ويلعن :" ليت العقم عرف والدي، ولا يعني هذا إنني ارفض تناول اللحوم، على العكس أتناولها بشراهة، الجميع وحوش ياعزيزي، ربما الواقعة أيقظت داخلي مشاعر الخوف من نفسي، قولي يا أستاذ محمد ألا تخشى من نفسك ومن جسدك؟ "صدقوني رغم فارق العمر الكبير بين فريد ومعلمه الشاب، إلا أن صداقة قوية ستنشأ بينهما، فالعالم لا يزال بخير!، وربما يرث عنه الصغير حب قراءة الكتب العلمية، ربما.
"انتهت القصة"