سحر الجعارة
دائماً ما نردد بشكل عفوى أن ثورة 30 يونيو قامت ضد الفاشية الدينية، ولا ننتبه إلى أن الفاشية الدينية هى «مناخ ثقافى» تغذيه منظومة تكفيرية تصادر حرية الفكر والتعبير فى المقام الأول، وتعمل بشكل ممنهج لاغتيال العقل المصرى بفتاوى تحرض على قتل أفراد الجيش والشرطة، وهدم الكنائس واستحلال أموال وأعراض المسيحيين، وتحاصر المرأة فى هيئة شعبية «للنهى عن المنكر» كانت نتيجتها المباشرة تزايد معدل «التحرش الجنسى».. هذا المناخ الذى حذّر منه السيد الرئيس «عبدالفتاح السيسى» أكثر من مرة، وطالب المثقفين مع الدعاة ورجال الدين بما سماه «ثورة دينية» ضد الخطاب الدينى المفخخ بكل آليات هدم الدولة المدنية.

الغريب أن كل من يقف فى خندق الدولة وحماية النظام من «الفكر الداعشى» يجد نفسه فجأة فى مواجهة دعاوى الحسبة وكتائب «اغتيال الشخصية»، ورغم ذلك يستمر تيار التنوير الإصلاحى فى أداء مهمته، تحت تهديد المادة «98» من قانون العقوبات، المسماة «ازدراء الأديان» والتى أصبحت مشنقة معلقه لاصطياد المفكرين والمجتهدين، رغم أن «السادات» وضعها فى القانون بعدما استخدمت الجماعة الإسلامية منابر المساجد للإساءة إلى المسيحيين، لكن المادة «98» تحولت إلى «زنزانة للعقل ومعتقل للمفكرين» وهو وضع غريب لا وجود له فى المجتمعات العربية والإسلامية!

الدكتور «خالد منتصر»، الكاتب والمفكر، قال فى بداية مناقشته لمادة ازدراء الأديان، فى برنامج «يتفكرون»، الذى يقدمه على شاشة «الغد»، إن هذه التهمة تجرجر المفكر والفنان والأديب إلى ساحات المحاكم وغياهب السجون بكل سهولة، بل وبكل راحة ضمير.. وتابع: «تارة باسم تحطيم الثوابت، وتارة أخرى بإنكار المعلوم من الدين بالضرورة»، موضحاً أن ازدراء الأديان مصطلح مطاط والتهمة ضبابية، والتهمة هى كل تساؤل مشروع حول التراث الذى يريدونه مُحنطاً.

وتساءل الدكتور «منتصر»: هل كل انتقاد للفكر والتاريخ الدينى هو ازدراء أو تحقير؟

هذا السؤال أجاب عنه الدكتور «عبدالجليل سالم»، رئيس جامعة الزيتونة ووزير الشئون الدينية الأسبق، وقال: «لا بد أن نفرق بين ازدراء الدين ونقد التراث، لا بد أن نفرق بين الدين والفكر الدينى، المشكلة عند المسلمين أنهم قدّسوا هذا التراث وصار التراث هو الدين، هذا باطل يراد نشره باسم الدين، تقويم هذه الأفهام الإسلامية عمل بشرى، ونقد البخارى لا يُعد ازدراء للدين، لا بد أن نعيد النظر فى البخارى وفى الأحاديث، العقلية الحديثة من الممكن أن ترفض بعض تلك الأحاديث، لا قداسة للتراث، لا بد أن نخلخل هذا التراث، العقل العربى يعيد ويجتر مشكلاته القديمة».

سأتوقف هنا أمام ملاحظة صغيرة، أن ما قاله د. «سالم» لو قيل فى مصر لكان كفيلاً بتكفيره وجره إلى المحاكم، «إعادة النظر فى البخارى وفى الأحاديث»، جملة كالسيف كفيلة بالإطاحة بعنق أكبر مفكر فى مصر.. إذن ما الذى تفعله السعودية الآن بعدما تبرأت وتوضأت من الفكر الوهابى تماماً وتركتنا تحت مقصلته؟

أصدر الملك «سلمان بن عبدالعزيز» قراراً بإنشاء هيئة للتدقيق فى استخدامات الأحاديث النبوية، بهدف القضاء على النصوص الكاذبة والمتطرفة وأى نصوص تتعارض مع تعاليم الإسلام وتبرر ارتكاب الجرائم والقتل وأعمال الإرهاب.. وقد تساءلت -آنذاك- لماذا لم يعترض شيخ الأزهر الدكتور «أحمد الطيب»، أو يتهم الرياض بالهجوم على تراث المسلمين، ولم يهدد ويتوعد من مراجعة السعودية للأحاديث النبوية، بينما تعمّد إرهاب الكتّاب والمفكرين والمجددين فى مصر وتونس.. وذكرت فى مقال سابق فى جريدة «الوطن» أن الإمام الأكبر لا يقتنع بأن «الدستور يحمى حرية الفكر والإبداع والتفكير».. وهى الحريات التى يصادرها الأزهر بمطاردة الكتّاب والمفكرين قضائياً!.

على سبيل التفاؤل، قالت الدكتورة «ناجية الوريمى»، أستاذة الحضارة الإسلامية فى الجامعة التونسية، فى برنامج «يتفكرون»، إن الإبداع لا تُفرض عليه حدود، ولا تطبق عليه القواعد الدينية، ويُترك للأديب حرية وضع تلك القواعد.

وأضافت د. «الوريمى» أن السلطات هى التى تحمى نفسها من الازدراء وليس الأديان، لأن الأديان لا تحتاج إلى حماية، نحن نعانى من عدم إخضاع التراث للتشريح والنقد العلمى، التراث فى حاجة إلى نقد تاريخى وعلمى، ما تعرّض له د. «نصر أبوزيد» لأنه انتقد التراث يُعد فضيحة للفكر العربى، المشكلة ليست فى التراث، ففيه مناطق منيرة، وفى التراث مناطق أخرى لا بد أن توضع فى المتاحف الفكرية. التراث كان مليئاً بما يمكن أن يُحاكم الآن بتهمة الازدراء، ولنتذكر جرأة المعرى وأبونواس، حرية الأديب كاملة فى توظيف الأسطورة والدين.. الأديب صار فى خطر.. صار يمارس على نفسه رقابة ذاتية تخنق إبداعه.

لقد وجّه «خالد منتصر» -من قبل- رسالة إلى البرلمان للمطالبة بإلغاء قانون ازدراء الأديان، وذلك ضمن تكاتف الدولة ومؤسساتها لمحاربة الإرهاب، وكتب «منتصر» على حسابه الخاص على موقع «تويتر»: «إلغاء قانون ازدراء الأديان صار فريضة، لو ماحصلتش دلوقتى يبقى البرلمان بيهزر، والدولة مش جادة».

فهل نتوقع من مجلس النواب القادم تبنِّى عملية «إصلاح تشريعى» لتنقية القانون من المواد السالبة للحريات، والأخرى التى تتعارض مع الدستور؟!

أتمنى.. وأتمنى ألا يكون الرد على مناقشة قانون ازدراء الأديان برصاصة جديدة موجهة لعقل د. «منتصر».. لا يوجد إصلاح سياسى دون إصلاح تشريعى، ولا توجد «دولة مدنية» صلبة لا تحمى عقولها من مفكرين ومثقفين من عداء المؤسسة الدينية الرسمية وكتائب الحسبة الدينية.
نقلا عن الوطن