عاطف بشاي
لا تحاكم الروائية «ضحى عاصى» مؤلفة رواية «غيوم فرنسية»- التى تقع أحداثها أثناء مصر'> الحملة الفرنسية على مصر- أبطال روايتها.. فهى لا تدينهم ولا توصمهم بتخاذل أو شطط.. جرم أو خطيئة.. ولا تفسر سلوكهم ولا تتقمص شخصياتهم أو تعانى همومهم.. ولا تفرض عليهم توجهاتها أو تصوراتها الخاصة.. بل تقف على مسافة مناسبة منهم.. تتأملهم ترصد دوافعهم وتسبر أغوارهم.. وتعكس أحزانهم الدفينة وقسوة أيامهم.. وغدر زمانهم ووحشية عصرهم.. تدفعهم إلى جدل ساخن يتصاعد بالأحداث ويدفع الدراما إلى الأمام.. دون أن تلوى عنق تلك الأحداث التى تقودهم إلى قدر محتوم.. أو لعنة تراجيدية على طريقة المآسى الإغريقية.

«فضل» بطل الرواية النجار الفقير.. ينضم إلى جيش شعبى بقيادة المعلم «يعقوب» لمجابهة المماليك وطغيانهم بالتعاون مع «الفرنسيين».. بينما حبيبة (زوجته الأرثوذكسية) ترفض ذلك بشدة مستنكرة من منظور طائفى حكم الفرنسيين لمصر.. لانهم ينضمون إلى طائفة الكاثوليك.. ومن ثم فهى ترى يعقوب هذا فاجراً وكافراً.

يصر «فضل على موقفه».. وحينما يقرر نابليون الانسحاب ويرد «مصر» إلى الباب العالى.. يدعوها «فضل» إلى السفر معه إلى «فرنسا» هرباً من حكم المماليك.. ترفض.. يواجهها: «لن أبقى فى بلد يقولون فيه انزل من على البغلة يا نصرانى.. عاد الفرنساوية إلى أرضهم.. انهزموا بما يكفى ومات من رجالهم الآلاف.. لن يشغلوا بالهم مرة أخرى بمماليك ولا ببغلتك.. ابقى يا (فضل) وسوف يسامحك المماليك. لن أطاطئ رأسى لهم مرة أخرى بعد أن تعلمت أن أقول لا سأموت قهراً إذا بقيت.. يقرر السفر بمفرده.. وأمام شجرة مريم بالمطرية يقف خاشعاً يردد لنفسه فى مونولوج داخلى: هربت العذراء بابنها إلينا.. وعادت إلى بلادها كما أهرب أنا الآن.. وسأعود كما عاد المسيح».. تصف المؤلفة ببلاغة آسرة وعبارات خلابة مؤثرة لحظة وداعه للوطن مؤكدة: اغتسل من مياه الينبوع المقدس الذى غسلت فيه من قبل ثياب المسيح.. اقتطع غصناً من الشجرة ووضعه فى حقيبته الصغيرة.. كان غصن الجميزة هو كل ما أخذه معه من مصر فى رحلته إلى هذا المجهول.

وعلى ظهر السفينة المبحرة إلى فرنسا حيث «يعقوب» وأقاربه وأتباعه ومعهم الجنرال بليار قائد حامية القاهرة وثلاثمائة جندى.. يتخيل «فضل» نفسه يبحر إلى مدينة تدق بها أجراس الكنائس دون استحياء.. وعالم أكثر رحابة وليس حارات ضيقة يطلق عليها «حارات النصارى».. بموت المعلم «يعقوب» على ظهر السفينة فى عرض البحر يحس «فضل» بالوحدة والضياع.. فهو يمثل له الثائر القدوة.. فقد وجد فيه إجابة عن سؤال مصيرى.. هل لرجل الدين دور أكثر إيجابية غير اللجوء إلى العظات فى القداس الإلهى؟! دور يسعى إلى مواجهة البؤس والظلم الهائل بدلاً من تحملهما أملاً فى الخلاص.. لقد فتح له «يعقوب» باباً آخر للخلاص.. إنه باب المقاومة والنضال والكفاح من أجل الحرية والكرامة. ولكن فى معسكر «مرسيليا» تكون المواجهة الحتمية العاصفة أو المشهد الإجبارى بلغة السينما والذى يتمخض عنه ذروة الصراع الذى يعتمل فى نفس «فضل».. متمثلاً فى حوار كاشف بالغ الدلالة والأهمية مع «فابيان» (الضابط الفرنسى الذى يعمل فضل تحت قيادته).. إنه حوار يزلزل كيان «فضل» ويهز قناعاته ويسفر عن تحولات عميقة فى سلوكه وتوجهاته ومصيره كله.. يبدأ الحوار بسؤال: هل تعرف يا «فضل» حقيقة ما هى فرنسا التى تحبها؟ يبادره «فضل»: المساواة.. الثورة.. الجمهورية.. العدل.. الإخاء.. يصيح «فابيان»: لقد أحببت الحلم.. الحب الذى أحبه الكثيرون كل منا بطريقته.. هل تعلم أن «بونابرت» وضع مدافعه فى كنيسة «سان روش» وعندما اقترب المتظاهرون أعطى أوامره بإطلاق النار عليهم.. وفى دقائق تحولت الساحة إلى بركة من الدماء.. كان عددهم عشرين ألفاً.. أما هو فقد تمت ترقيته.. هناك من يموت من أجل الثورة وهناك من يقتل ويعتقل من أجل الحفاظ على الثورة.. هناك من يطالب بالعدل وهناك من يستخدم القوة فى تحقيقه.. لا أحد يتنازل عن سلطة طواعية لآخر.. ولا أحد يتنازل عن رغيف خبزه ليبقى جائعاً.. لن يعطى السيد عبده الحرية طواعية.. التجربة علمتنى أن لكل شىء فى الحياة حتى أكثرها نبلاً وجهاً آخر شرساً مدمراً..
نقلا عن المصرى اليوم