بقلم: غـازي انـعـيـم
كان أكبر حدث فني في بورصة الفن العالمي، خلال عام 2006، هو بيع لوحة " دورا مار والقطة " للفنان بابلو بيكاسو في مزاد دار سوثبي بنيويورك بمبلغ 95 مليون دولار، واعتبرت هذه اللوحة من أغلى اللوحات في تاريخ الفن الحديث بعد لوحة " الصبي والغليون " التي بيعت بمبلغ 104 ملايين دولار، في ذلك العام، ودورا مار ( هنرييت تيودورا ماركوفيتش ) التي اقترن اسم بيكاسو بها خلال العام 1935 هي أشهر عشيقاته، أمها فرنسية ووالدها مهندس معماري كرواتي، استقر في باريس عام 1926.
 
كان من هواية دورا مار التصوير الفوتوغرافي والرسم فالتحقت في مدرسة التصوير الفوتوغرافي ثم في مدرسة الفنون الجميلة، وفي عام 1930 أقامت ستوديو للتصوير الفوتوغرافي في شارع ( Campagne-Première ) في باريس مع المصور Pierre Kéfer. وعملت معه في الاعلانات التجارية ومجلات الأزياء. والتقت بالمصور براساي (Brassaï) وكذلك بالمصور لويس فيكتور عمانوئيل شوغز، المصور الذي يعمل في مجال الإعلان، وعالم الآثار والمدير الفني لصحيفةLIllustration .
 
كانت في هذه المرحلة من الناشطات ضد الفاشية، حيث وقعت في 6 / 2 / 1934 على بيان " النداء إلى النضال " بمبادرة من أندريه بيرتون، وكانت كثيراً ما تصور أبناء الطبقات الفقيرة والكادحة، كما كانت جزءاً من منظمة يسارية تدعى " الجماهير " وهي منظمة مناهضة للفاشية تسمى " اتحاد المثقفين ضد الفاشية " وأكثرية أعضائها هم من الكتاب والفنانين اليساريين، كما شاركت في العديد من المظاهرات والمجموعات السريالية.
 
شاهد بيكاسو دورا للمرة الأولى في مقهى " دوماجو " في حي السان جيرمان، في شتاء 1935 م، وكانت ترتدي قفازاً أسود مطرزاً بأزهار وردية.
يذكر بيكاسو أنها دخلت المقهى ودارت بعينيها في أرجائه، ثم اتخذت لنفسها مائدة صغيرة قريبة من تلك التي كان يجلس هو إليها، ثم أخرجت من جيبها مدية صغيرة ذات نصل رفيع وراحت تغرسها بين أصابعها المفتوحة على المائدة الخشبية! وقد أخطأت مرة الضربة فإذا بنقط من الدم تغرق كفها الأسود.
 
ذهل بيكاسو وهو يرى ما تفعله هذه المرأة بنفسها، فسارع يتقدم منها ويطلب أن تمنحه شرف الاحتفاظ بالكف الدامي! ولم تتأخر دورا في تلبية طلبه، وكان هذا الكف الذي ظل يحتفظ به في خزانته حتى مماته بداية القصة في فصولها الغرامية.
 
في شتاء عام 1935 عملت دورا مار كمصورة في فيلم " Jean Renoir The Crime Of Monsieur Lange " وبهذه المناسبة قدمها بول إيلارد بشكل رسمي إلى بابلو بيكاسو، واستمرت اللقاءات بينهما حوالي 9 سنوات دون أن يقطع بيكاسو علاقته مع زوجته ماري تيريز والدة ابنته " مايا ".
هذه الحبيبة التي أخذت بيد بيكاسو إلى عوالم جديدة، كانت تجلس معه لساعات يتحاوران ويتناقشان.. ومما زاد من تقديره لها ما تتمتع به من ثقافة واسعة، بعكس عشيقاته السابقات البعيدات كل البعد عن دائرة الاهتمام بالنواحي الثقافية والفنية. علاوة على ذلك أن زوجاته بعيدات كل البعد عن الحوار والنقاش الفني ولا يتمعن بثقافة.
 
قرر بيكاسو الاقتران بها، وانتقلت لتعيش معه في بيته الذي كان يقع في شارع " لا بويزي "، رغم أنه كان يعيش مع امرأة أخرى هي ماري تيريز.
 
تضايقت دورا من المكان ومن ماري، فطلبت من بيكاسو الانتقال إلى شقة أخرى، وكان لها ما أرادت، إذ لملم بيكاسو لوحاته وألوانه، وسكنا في أحد مباني شارع " جراند أوجستان " قرب الحي اللاتيني، وفي هذا المبنى كانت دورا مار التي بدأت حياتها كرسامة، الشاهدة الوحيدة على ميلاد لوحة " الجرنيكا " التي كان يناقشها في كل خطوة من خطوات إنجازها، حتى أن دورا مار تمثل المرأة الصارخة وسط اللوحة التي تستنكر أهوال الحرب. وعندما أدركت دورا مار أهمية هذا العمل الذي خلدها فيه إلى جانب تخليد الضحايا الذين سقطوا من أبناء الجرنيكا خلال الحرب الأهلية الأسبانية، قامت بشراء آلة تصوير وراحت تلتقط الصور الفوتوغرافية يومياً لكل مراحل العمل.
 
وخلال حياتها معه، رسمها بيكاسو في عشرات اللوحات، وفي كل الأوضاع، ولم يترك ملمحاً أو تعبيراً من تعابيرها او قبعة من قبعاتها دون أن يخلده بريشته، فهذه دورا باكية، وتلك وهي تسرح شعرها، وثالثة وهي مستلقية، وأخرى وهي تفكر.. بحيث أن هناك من النقاد من يرى أن بيكاسو لم يرسم في الحقيقة سواها، رغم أن عشرات النساء وقفن أمامه.
 
ويقال أن " دورا مار " كانت تتجمل وتتزين قبل أن تجلس أمام بيكاسو ليرسمها، رغم علمها بأنه لن يرسمها بطريقة واقعية، وكان يرسمها أحياناً بطريقة تعبيرية وتكعيبية بخطوط بسيطة ومعبرة، تركز على عينيها الداكنتين، وعلى وجهها المستطيل الأمامي والجانبي.. حتى انه جعل من وجهها في هذه اللوحات يكتسب توازناً كلاسيكياً بفضل الهدوء المسترخي لملامح الوجه، مما يجعل المشاهد يتساءل: هل كان بيكاسو آنذاك يعبر عن خوفه من العزلة؟
 
ومن أهم وأشهر اللوحات التي رسمها لدورا مار لوحة " المرأة الباكية "، التي بيعت في عام 1998 بمبلغ ( 6, 6 ) مليون دولار، والمرأة الباكية هي لوحة رمزية لفترة الحرب الأسبانية، وقد وصف بيكاسو يوماً تلك اللوحة وهو يتحدث مع صديقه وزير الثقافة أندريه مالرو: " إنها امرأة كانت تبكي على الدوام... إن النساء كلهن ماكينات مستعدات لذرف الدموع "!
 
ومن أشهر لوحاته أيضاً لوحة " دورا مار والقطة " التي رسمها عام ( 1941 )، وقد بيعت اللوحة في عام 2006 بمبلغ كبير هو ( 95 ) مليوناً و ( 216 ) ألف دولار بما فيها العمولة بمزاد في دار سوثبي للمزادات، لتصبح ثاني أغلى لوحة فنية تباع في مزاد على مر التاريخ.
 
وتصور اللوحة النابضة بالحياة دورا مار وهي جالسة على كرسي خشبي، وقد برزت قطة صغيرة تقف فوق قمة الكرسي، خلف كتفها الأيمن... لكن دورا مار لم تغفر لبيكاسو الذي رسم لها عشرات اللوحات انه رسم صديقته السابقة ماري تيرنر مشابهة لإحدى لوحاتها!
 
إلا أن قصة الحب الحميمة التي جمعت بين بيكاسو ودورا مار، كانت لابد أن تنتهي، ففي ربيع 1943، هجرت دورا مار بيكاسو بعد أن أدركت أنه لا يستطيع الإخلاص في الحب، فقد تعرف بيكاسو في تلك الفترة إلى إمرأة جديدة هي الرسامة فرانسواز جيلو، واتخذها زوجة أنجبت له ولديه كلود وبالوما.
 
والغريب أن بيكاسو كان يمتلك أسلوباً يجعله يحافظ على صداقة حبيباته، حتى بعد أن تنتهي قصة الغرام بينه وبينهن، لقد استطاع أن يقنع دورا مار بأن تبقى صديقة وفية له، يلتقيان ويتحدثان ويتبادلان الهموم مثل أي رفيقين.
 
لكن يبدو أن العاشقة المسكينة لم تتحمل خروجها من بؤرة اهتمامه، عندما اصطحب فرانسواز جيلو إلى الصالة التي كانت دورا مار تعرض فيها أعمالها الفوتوغرافية، الشيء الذي أصابها بخيبة كبيرة، فأصيبت بانهيار عصبي، أدخلت على أثرها إلى مستشفى الأمراض العصبية، وهنا تتواصل القصة في فصولها السحرية، حين تولى بيكاسو مهمة الإشراف عليها في فترة مرضها، كما أنه دفع تكاليف علاجها، وتكلم مع صديقه الطبيب النفسي المعروف " جاك لاكان " لكي يساعده في إخراجها من المستشفى.
 
عادت دورا مار إلى بيتها الذي اشتراه لها بيكاسو بثمن إحدى لوحاته في عام 1945 م، في بلدة " مينيرب "، لا تغادره، مكتفية بالتجول بين اللوحات التي أهداها بيكاسو إليها، باعتبارها الملهمة والرفيقة.
 
ومن بعيد، تابعت أخباره، وعرفت انه صار أشهر رسام في القرن العشرين، وأن كل خط من خطوطه بات يباع بآلاف الفرنكات أو الدولارات، وأدركت أنها تعيش وحيدة، لكنها محاطة بثروة من اللوحات، التي لا تقدر بثمن، لكن دورا مار التي كانت توصف بأنها صاحبة الوجه الأكثر شهرة في أوروبا، لم تبع أي من تلك اللوحات كي تتمتع بها في حياتها، فقد فارقت الحياة في صيف عام 1997 عن تسعين عاما، قبل أن تشاهد مزاد لوحة " دور مار والقطة " التي بيعت بمبلغ 95 مليون دولار، وببيع هذه اللوحة أسدل الستار في عام 2006 على واحدة من أغرب وأشهر قصص العشق والإبداع والإلهام في القرن الماضي، فالبشر يرحلون، سواء كانوا فنانين أم ملهمات، وأن الذي يبقى من أثرهم، هو ما أبدعوه من لوحات تنطق بالفن الرفيع.