عادل نعمان
نصحنى مفتى تنظيم الجهاد الشيخ عمر عبدالرحمن فى لقاء بمدينة بروكلين فى تسعينيات القرن الماضى، حين جمعنا نقاش حاد حول جواز بيع غير المرئى (بيع المغيبات) كالمحاصيل الزراعية فى باطن التربة، أو الشقق السكنية أثناء رمى الأساسات أو على الرسومات والمخططات، ودعانى أن أنضم لكتائب الدعاة الجدد، ففيها الخير الوفير والعيش الرغد الكثير، وأنت «يقصدنى» تملك ناصية اللغة ومفرداتها، وواسع الاطلاع والمعرفة، والأمر باليسير عليك، وجه فقط دفة القراءة لاتجاه واحد، ستجد كل الأمور ميسرة.. شكرًا يا سيدى: دعوتك الكريمة ليست مقبولة. أحد هؤلاء الدعاة المودرن تربطنى به علاقة قرابة من بعيد، كررها على مسامعى وقت أن كان رقيق الحال والمال، لكنه تراجع عنها حين ارتاد نوادى الصفوة وحلقات النساء، وتوحشت أحواله وأمواله، وتضخمت ثرواته العقارية، وتكاثرت شركاته واستثماراته، وتضاعفت أسهمه ومشاركاته بالملايين داخل مصر وخارجها، فإما ليحجب هذا الخير عنى، أو مخافة أن أكشف ما يستره عن الناس.

وهو أقصر طريق للغنى والثروة والجاه والصدارة، يكفيك أن تقرأ وتكتب، وتجيد فن الخطابة، وتجهر بالصوت وتجلجل حين تتوعد وتنذر وتهدد، أو ترق وتحن حين تُبشر وتُطمئن، وبين فقرة وأخرى تكون عيناك على من يتابعك ويسمعك، فإذا شعرت بغرابة ما تقوله على مسامعهم، أو تاهوا أو شردوا عنك أو بهتوا أو ذهلوا من هول وغرابة ماتقوله.. «ازعق » بصوت عال وعينيك ويديك إلى السماء «وحد ربك يا مؤمن» أو «صلوا على الحبيب».. فيعود من شروده من شرد، ومن ذهوله من ذهل، ومن غربته من اغترب، واحتمى الجميع من التفكير بمظلتك وسمائك، وأصبح تحت جناحيك مطيعًا هادئًا.

وهى جلسات مضمونة مدفوعة دون نقاش أو حوار أو إحراج، فلا مجادلة ولامحاورة ولاسجال ولا مخاصمة، الجميع هامد هادئ ساكن ومستأنس، حتى لو دار سؤال فى عقل أحدهم هنا أو هناك، يظل حبيسا مكتوما مقيدا مخافة الردح والهبد. دعانى أحد الأصدقاء إلى وليمة فى قصره المنيف بالتجمع الخامس وكأنت الوليمة على شرف شيخين: أحدهما رسمى فى مكان رفيع، والثانى من دولة خليجية.. وتناولا الحديث فى سهولة ووداعة، هذا يسلمه لذاك، وذاك يتلمسه بنعومة من الآخر، ويعيده بمودة وحنان إلى صاحبه، وتناوب الاثنان الحديث بينهما فى لين وهوادة وتودد وملاطفة، ولم يكن حديثا يستحق كل هذا، بل لو تناوله الناس على المصطبة لكان أوقع وأنسب، ورأيت الأمر فى نهاية المطاف تَصنُّعًا زائدًا على الحد، وحديث من جانب، وقبول ومباركة «متصنعة» من الجانب الآخر، ودروشة ليس لها ما يبررها، انسحبت فى هدوء ولم أكررها حتى اليوم.

صديقة عزيزة تقيم هذه الولائم فى بيتها وتدعو الشيوخ للحديث إلى النسوة الفارغات، تقسم أن شيخا مشهورا الآن تتخاطفه الفضائيات كان منذ أعوام قليلة يطلب فى الندوة الواحدة خمسة آلاف جنيه وغداءً فاخرًا يحدده بنفسه ويتناوله فى غرفة بمفرده، وخمسة كيلو من اللحم المشفى «خالصة مخلصة» توضع له فى السيارة أثناء مغادرته، وليس هذا الداعية المشهور فريدًا فيما يقرر ويطلب، فجميعهم كذلك وأسوأ منه كثيرا، فبداية الطريق منذ قرون كانت مصلحة ولقمة عيش «وطبيخ»، فلما طفحت وفاضت، ظلت على عهدها ونشأتها وتاريخها دون تعديل «ومن فات قديمه تاه».

إياك أن تظن أن تاريخ الغالبية العظمى من هؤلاء «الكاتب مقتنع بأن الغالبية هنا تزيد على تسعة وتسعين بالمائة»، هَمّهم أو شاغلهم دين الله، أو دعوة الناس إلى الحق أو الخير أو العلم والعمل، أو حتى الدعوة إلى النظافة وهى من الإيمان، إلا أن شاغلهم الحكايات والروايات والأساطير والقتل والسبى والأسر والجهاد، لم يدافع أحدهم عن فضل العلم والعمل والأمانة والإخلاص والوفاء.. وغيرها من القيم الإنسانية وهى أساس دعوة الأديان، ولم نسمعهم يحاربون التحرش، بل منهم من يكفله ويبرره ويقرره.

ليس غريبا أن ينقسم الشباب فى أحلامهم وطموحاتهم عند قدم لاعب كرة، أو حنجرة داعية أو مغنى أفراح.. وكلها مواهب تغنيه عن مشقة التعليم والدراسة، وإذا سألت أحدهم: ولماذا؟، فيرد عليك: ومن الأكثر غنى وثروة وحظًا.. العالم الجليل العظيم محمد غنيم أو شيخ من الشيوخ مبروك عطية أو خالد الجندى أو بيكا أو شطة أو شاكوش أو غيرهم؟.. لا يا أخى.. الأمم لا تتقدم بهؤلاء، بل تتقدم بمحمد غنيم ومجدى يعقوب وزويل.. الانحدار يبدأ حين يتغلب ويتقدم هذا الفريق على العقل والعلم، التجارب الإنسانية تقرر حقيقة واحدة «لا انتصار ولا تقدم ولا تنمية إلا بالعلم والعمل، والخرافات والأساطير والحكايات كلها لعبة الدعاة ومصيرها إلى التغييب والإبعاد والعزل والجهل».

بقيت إجابة بالتأكيد تشغلك أيها القارئ العزيز حول «بيع المغيبات» أو حرمة أو جواز بيع «غير المرئى» عند هؤلاء، وسوف أترك لك الحكم لتعرف جيدا أن تغييب عقل الأمة وتجهيلها وإفقارها مقصود، وإليك الآتى.. لا يجوز وفقا لرأى الكثير منهم بيع شقة فى عمارة دون أن يكون قد اكتمل بناؤها، أو بيع محصول دون أن يكون قد اشتد عوده وطاب ثماره، أو بيع سيارة وهى فى عرض البحر أو فى خط التصنيع، أو منتج من المنتجات تحت خط الإنتاح.. وطبعا فى نهاية الجلسة والحوار قد عارض ما وصلت اليه.. إلا أن حوار الطرشان ليس فى كله استجابة.
نقلا عن المصري اليوم