فرانسوا باسيلي
سؤال هام يستدعي التأمل وسط سخونة المعركة الإنتخابية الطاحنة الحالية..

في الأسبوع الأول من نوفمبر القادم أو بعده بقليل ستكون النتيجة النهائية للإنتخابات الأمريكية قد اعلنت، مع إحتمال حدوث مفاجئات من أحد الجانبين أو كليهما يمكن أن يشكك في النتيجة، وهو إحتمال قائم لأن ترامب أعلن أكثر من مرة أنه قد لا يقبل النتيجة تلقائياً إن لم يكن هو الفائز، وهو ما قاله أيضاً في إنتخابات 2016 قبل فوزه.

رغم إستطلاعات الرأي التي تمنح بايدن عدة نقط أعلي من ترامب، إلا أنه من الصعب توقع النتيجة بثقة، ولكن الشيء الوحيد المؤكد هو أنه بعد اعلانها وقبولها فإن حوالي نصف الأمريكان سينصبون الأفراح والليالي الملاح بشكل غير مسبوق، بينما سينصب النصف الآخر مأتماً وصراخاً هائلاً أيضاً بشكل غير مسبوق.

وذلك لأنني وطوال وجودي في أمريكا لنصف قرن كامل منذ وصولي في يناير 1970 لم أشهد إنقساماً داخلياً علي هذه الدرجة من الحدة والتغول، هو إنقسام ليس سياسياً فقط، لكنه في الحقيقة إنقسام أعمق كثيراً من الإنقسام السياسي علي السطح، وهو ما يجعله علي هذا القدر من الحدة والإندفاع العاطفي إلي حد التطرف والتمادي في لعن الآخر وشيطنته  بكل كلمات الشيطنة وبكل لغات اللعنات.

يكفي أن تشاهد عدة دقائق في قناة فوكس نيوز لتجد أنها تصف الديمقراطيين واليسار علي أنهم شياطين وأبالسة حمراء لا قيم ولا أخلاق لها مستعدة للإنقضاض علي المجتمع الأمريكي لتحويله إلي مجتمع شيوعي أحمر شمولي إشتراكي لبرالي فوضوي إلحادي في نفس الوقت، تشاهد هذا في دهشة وكأن الديمقراطيين لم يتقلدوا الحكم في أمريكا منذ أربع سنوات فقط بعد ثمانية سنوات في الحكم، وكان المرشح الديمقراطي الآن بايدن هو نائب الرئيس طول تلك الفترة، ولم تسقط أمريكا في براثن الشياطين الحمر الشيوعيين الإشتراكيين الفوضويين الذين يرعبون بهم الناس.

ويكفي أن تشاهد عدة دقائق في قناة مثل MSNBC لتري العكس، فتشاهد من يصور اليمين والمحافظين وكأنهم قطيع من المغيبين الذين لا يعرفون مصلحتهم، ينساقون وراء ترامب بلا عقل ولا وعي، وكأن ليس لديهم قضية أو قضايا حقيقية يدافعون عنها تشكل مصالح حقيقية لهم، وتتعلق أساساً بما يرون أنه خطر ضياع أمريكا التي يعرفونها، أمريكا ذات القيم المحافظة التقليدية المسيحية التي يرون أن اليسار واللبراليين الديمقراط يستهينون بها ويضربون بها عرض الحائط، رغم أنني شخصياً أفرق بين القيم المحافظة التقليدية وبين ترامب الذي أراه حالة خاصة لا تمثل سوي نفسها.

النتيجة أن المجتمع الأمريكي اليوم في حالة إنقسام حادة جداً أري أنها قد وصلت إلي حد خطير، وللسيد المسيح كلمة واضحة في هذا الصدد وضعتها عنواناً لكلامي هنا، ومعها السؤال الصعب المهم جداً، هل ستخرب المملكة الأمريكية المنقسمة علي ذاتها؟ هذا سؤال يؤرقني كثيراً لأنني ربما عكس معظم الناس يمكنني دائماً أن أري الأمور من وجهة نظر الآخر المختلف جداً، ويمكنني حتي أن أتعاطف مع وجهة النظر المختلفة هذه وأفهمها تماماً دون أن اتفق معها أو أعمل في صفوف جنودها.

كإنسان هاجر من مصر إلي أمريكا من نصف قرن ووجد في المجتمع الأمريكي مجالاً إنسانياً راقياً لتحقيق الذات بقدر وافر من حقوق المواطنة والحقوق الانسانية مع الإنفتاح القوي لتحقيق الرغبات والطموحات فأن أمريكا تهمني أكثر مما يهمني حزب أو تيار أو جماعة، فأمريكا التي جذبتني للهجرة إليها رغم التصاقي الوجداني والعقلي واللغوي والفني الهائل بمصر حضارة وتاريخاً هي أمريكا الحلم والفكرة والطموح وليس فقط أمريكا الواقع رغم أنه في أحد اشكاله هو التحقيق الممكن للحلم وللفكرة.

أيا كانت نتيجة الإنتخابات الأمريكية بعد أيام قليلة سيظل خطر الإنقسام الداخلي قائماً وكبيراً، فالفريق الفائز قد تدفعه خمرة الفوز للتصرف كالمخمور فيطيح بكل أعراف السلوك السياسي الحكيم المتزن المنضبط فيتمادي في السياسات اللبرالية بتسارع لا يتحمله المجتمع لو فاز بايدن، أو يتمادي ترامب لو فاز في نزعته نحو تحطيم المؤسسات والمنظومات الأمريكية التقليدية التي هي دعامة الديمقراطية الأمريكية العريقة، مما في الحالتين سيزيد من غضب وكراهية وتربص النصف الآخر من الأمريكيين، فهم لن يتركوا البلد وسيظلون موجودين، فيظل الصراع الداخلي الشرس غير المسبوق غير الحكيم مشتعلاً بلا هوادة، يظل إنقسام البيت علي نفسه فيظل إحتمال الخراب قائماً.

هل يمكن للعقل والحكمة والتوازن أن يعودوا للمجتمع الأمريكي في الزمن الإفتراضي الذي يصعب فيه معرفة الحقيقة من الاكذوبة، الصورة من الفوتوشوب، والحق من الباطل؟

هذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه أمريكا اليوم وغداً، قبل الإنتخابات وبعدها، وخارج أفراح الفائزين ونواح الخاسرين.

دوري كمواطن أمريكي هو أن أمنح صوتي في الإنتخابات المقبلة، وهو صوت من ملايين الأصوات، لكني أري أن دوري الأهم في الأشهر القادمة هو المساهمة في تقديم الأفكار والحلول نحو مناخ سياسي إجتماعي إقتصادي حضاري أقل تمزقاً وتشوهاً وانقساماً، وأكثر حكمة ورحمة وسلاماً.