فاروق عطية
المعلم غالي أبو طاقية:
 
كان في الأصل كاتب الأمير محمد بك الألفي أحد أمراء المماليك ثم تركه لسبب غير معلوم، والتحق بخدمة محمد علي باشا الذي عينه في منصب كبير المباشرين (وزير المالية).
 
كان على جانب عظيم من الذكاء والنباهة، ويعرف من أين تؤكل الكتف، فلم يظهر للباشا معارضة في أوامره بل كان يساعده على تنفيذ أغراضه وتسهيل الأمر له، ولا سيما فيما يختص بتحصيل الأموال. كان يعرف اللغة التركية ويتكلم بها، فأحبه الباشا ورفع منزلته، وعوَّل عليه في الأعمال المالية، وركن إليه وعمل برأيه وفكره فيها. ولما قصد محمد علي باشا تأسيس حكومة منتظمة، كان لا يخفى على المعلم غالي أنه توجد أراضٍ كثيرة يزرعها أصحاب الاقتدار بغير دفع أموال عليها، شرع في مساحة عموم أراضي القطر المصري فأخذ جملة الأراضٍ ورُبطت عليها الأموال، وبذلك نمت الإيرادات فكانت هذه خدمة وطنية عظيمة قام بها، وقسم أطيان كل بلد إلى حيضان وقبائل، وجعل لكل بلد زمامًا مخصوصًا، وغير ذلك مما لا تخفى فائدته.
 
عندما كثرت معارضة المعلم جرجس الجوهري (رئيس المباشرين السابق) لمحمد علي باشا وتباطؤه في تحصيل الضرائب التي كان الباشا في غاية الاحتياج اليها، قُبض عليه وعلى من معه من الأقباط المسيحيين بحجة أنه متأخر عليه مبالغ من حساب التزامه، وحجزهم في بيت كتخدا وأحضر المعلم غالي الذي كان كاتبا عند الألفي بك (أحد كبار المماليك وعدو محمد علي باشا) وعينه كبيرا للمباشرين وكلفه بفحص التزام المعلم جرجس عن خمس سنوات ماضية. وبعد سبعة أيام أمر بالإفراج عن المعلم جرجس الجوهري ومن معه على شرط أن يدفع اربع آلاف وستمائة كيس. قام المعلم جرجس بدفع عظيم من هذا المقدار ووزع الباقي علي الكتاب والصيارفة وجمعها في أقرب وقت، وكان جمعها بسرعة موجبًا لغير ما يتوقعه المعلم غالي، وسببًا في جلب الضرر عليه وعلى غيره. فإن الباشا بعد قليل أمر بمحاصرة بيته وبيت المعلم جرجس الطويل وحنا أخيه، وفرنسيس أخي المعلم غالي، والمعلم فلتاؤوس، واثنين آخرين، وأخرجوهم منها بصورة منكرة وسمروا دورهم وأخذوا دفاترهم، فلما حضروا بين يديه، قال لهم: أريد حسابكم بموجب دفاتركم هذه. وأمر بحبسهم إن لم يدفعوا ثلاثين ألف كيس، وبعد أيام أفرج عنهم بوساطة شخص يسمى حسين أفندي الروزنامجي على شرط أن يدفعوا سبعة آلاف كيس، فقاموا بدفعها.
 
 ولم تمضِ سبعة شهور حتى قبض عليهم ثانية وحبسهم في القلعة، وختموا على دورهم ثم أنزلوا المعلم غالي والمعلم فلتاؤوس في مركب منفيين إلى دمياط، وكان على ديوان الجمرك رجل يقال له: المعلم منصور صريمون ومعه كاتبان آخران: يسمى أحدهما بشارة والآخر رزق الله الصباغ، والبعض يقول: إن الثاني من عائلة المعلم جرجس الجوهري، فأحضر الباشا المعلم منصور وقلَّده مباشرة الدواوين، ثم سعى الساعون في مصالحة المعلم غالي ورفقائه، فقبل الباشا العفو عنهم والرضا عليهم بشرط أن يدفعوا أربعة وعشرين ألف كيس، ولما حضر المعلم غالي من دمياط طلع إلى القلعة وقابل الباشا فخلع عليه وألبسه فروة سمور، وتنازل له عن أربعة آلاف كيس، وأمر أن ينزلوا به إلى داره وأمامه الجاويشية بالعصي المفضضة، وأعاده إلى الرئاسة كما كان، أما المعلم منصور فجعله كاتبًا لابنه إبراهيم باشا.
 
 تكرر حصول ذلك من الباشا عدة مرات، فكان يغضب عليه تارة ويعزله ويرميه في الجن ويأمر بجلده ويقلد منصبه لغيره من رفقائه، ويرضى عليه تارة أخرى فيرده إلى منصبه بعد دفع مبلغ طائل لا يستطيع القيام به من ماله الخاص فيختص هو بجانب منه، ويوزع الباقي على زملائه وغيرهم من رؤساء الكتبة، فنتج من ذلك أن داخل بعض رفقائه الغيرة منه فانفكت رابطتهم وتفرقت كلمتهم، وكان هذا غاية مقصد الباشا.
 
 توجه محمد علي باشا ذات مرة إلى الإسكندرية لمهمة واحتاج لنقود فحوَّل على المعلم غالي صرف ستة آلاف كيس كانت باقية عليه، فاعتذر بعدم الاقتدار على أدائها في الحال بدعوى أنها بواقٍ على أربابها وهو ساعٍ في تحصيلها، فلم يقبل هذا العذر منه، وأرسل إلى كتخداه في مصر بالقبض عليه وعلى أخيه فرنسيس وأمينه المدعو المعلم سمعان وسجنهم في القلعة حتى يدفعوا هذا المبلغ، وخاف المعلم جرجس الطويل وحنا أخوه سوء العاقبة، وكان في نفسيهما شيء من جهة المعلم غالي فتحاملا عليه ووسوسا للباشا أنه إذا حوسب يظهر عليه ثلاثون ألف كيس، وتعهدًا بأنه إذا فوض لهما عمل حسابه ولم يظهر عليه هذا المقدار فيكونان ملزومين بأدائه للخزينة، فاشتد غضبه عليه وعزله من رئاسة الكتابة وولى آخر مكانه يسمى المعلم منقريوس البتانوني، وضيق عليه في الحبس وأهانه إهانة شديدة وكرَّر الضرب على أمينه حتى أشرف على الهلاك، وبعد ذلك أفرج عن أخيه وأمينه ليسعيا في التحصيل، أما المعلم غالي فبقي في الحبس مدة.
 
 وعندما أراد محمد علي تغيير هيئة الدواوين واستبدالها بأنظم أحدث منها، لتكون أقدر منها وتفوقها في النظام، حتى تعود بالفائدة على الخزينة، لم يتردد في الإفراج عن المعلم غالي والاستفادة من خبرته وكفاءته. وبعدما كُلّف المعلم غالي بذلك، قسم البلاد إلى مديريات وأقسام، والأطيان إلى أحواض، وابتكر أشياء كثيرة وحسابات تحقق مقدارًا وافرًا من المال.
 
بعد أن غاب المعلم غالي نحو سنة في الصعيد وهو يشتغل في ذلك عاد إلى مصر وكان المتولي إمارة الصعيد رجلًا يدعى محمد بك الدفتردار، فلما قصد المعلم غالي العود إلى مصر زوَّده بكتاب منه للباشا يمدح فيه نصحه وسعيه في فتح أبواب تحصيل الأموال للخزينة، وأنه ابتكر أشياء وحسابات يتحصل منها مقادير وافرة من المال.
 
وكذلك يُنسَب للمعلم غالي تأسيس مصلحة المساحة. كما كان له دوره في تشجيع صناعة الأسلحة محليًا، عندما قرر الباشا استيراد بنادق لتأسيس جيشه كان غالي له راي اخر فقد طلب من الباشا ان يقوم بتصنيع الاسلحة في مصر حتي لا يعتمد علي احد ويقوم بتوفير النفقات ولاقى الاقتراح موافقة محمد علي باشا. ومن أعماله الجليلة أيضًا اقتراحه على محمد علي حفر قناة بين بحر الروم وبحر العرب ولكنه لم ينفذ إلا في عهد الخديوي سعيد باشا. ونتيجة لنجاحه الكبير قابله محمد علي باشا بالرضا وأثنى عليه ومن ثمَّ اتخذه كاتمًا لسره وخصّه مباشرة الأعمال الحسابية التي ابتكرها، فكانت يده فوق يد الجميع حتى حكام الأقاليم.
 
  اعترض المعلم غالي علي قدوم وفود تركية للاستيطان في مصر وتملكها الاراضي وكان يرى ان ذلك خطرا علي مصر وعلي عرش محمد علي باشا نفسه، لكن الباشا لم يعجبه هذا، واصر غالي على رايه ونجح في ان يوقف الاستيطان التركي في ربوع مصر ولكن كان قلب الباشا قد تغير من نحوه وارسله لناحية زفتي. 
 
   استمر المعلم غالي في هذا المنصب حتى مقتله في مايو سنة 1822م، حين أطلق إبراهيم باشا رصاص مسدسه عليه في مدينة زفتى، أمام ابنه طوبيا فخرّ صريعًا، وهكذا نال المعلم غالي جزاء أمانته ووطنيته وخدمته، بعد أن أدى أجلّ الخدمات لمحمد علي ولإبراهيم باشا قاتله. وقد بقيت جثته ملقاة مدة يومين لا يجرؤ أحد على القيام بدفنها حتى استأذن رزق أغا حاكم الشرقية في دفنها، فأقيمت الصلاة على المعلم غالي بكنيسة أبي سيفين بزفتى ثم دفن بجوارها. ومن غير المعروف السبب الحقيقي لقتله، ويري بعض المؤرخون أن لعل السبب هو مقاومة المعلم غالي لجشع إبراهيم باشا، لرغبته واصراره علي تحصيل ضرائب على النخيل والتمر، بينما رفض المعلم غالي ذلك رفقًا بالمصريين لعدم إرهاقهم بتعدد الضرائب وطلبه عرض الأمر علي الباشا، أو بسبب رفضه القاطع لاستيطان الأتراك وتملكهم لأرض مصر، فما كان من إبراهيم باشا إلا أن أجابه بإطلاق رصاص مسدسه عليه فخرّ صريعًا.
 
   كان للمعلم غالي ثلاثة أبناء ذكور هم:
باسيليوس وطوبيا ودوس، وعندما قُتل المعلم غالي استدعى محمد على باشا باسيليوس ابن المعلم غالي لتطييب خاطره بعد ما فعله ابنه ابراهيم وقال لباسليوس : هل أنت حزين لموت أبيك؟ فأجاب باسيليوس: حاشا الله يا سيدي ولم يمت أبي مادام مولاي الأمير حيًا، فأنا لا أعرف لي أبا غير أفندينا. سُرّ الباشا لجوابه وخلع عليه وعينه مُحاسبجي الحكومة المصرية وغمره بإنعاماته وإحسانه وأنعم عليه بالرتبة الثانية (الباكوية)، وهو أول من حازها من الأقباط المسيحيين. 
 
  كان محمد علي باشا يعول عليه كثيرا في بعض الأمور، ويحكى أن الباشا غضب عليه ذات مرة وأمره أن يلزم داره ولا يخرج منه.
 
وفي مرة كان الباشا يجالس رجال حكومته وسألهم: ايوجد نوع من الزرع يعطي الفدان منه أربعين أو خمسين أردبا ؟، فقالوا: لا يوجد. أرسل الباشا في الحال وأحضر باسيليوس بك من داره وسأله نفس السؤال، فقال: نعم يوجد ما يعطي أكثر من ذلك بكثير، وهو النخيل والبصل. فسر الباشا لجوابه ورضي عليه. وبقي في وظيفته حتى مات. فقد كان محبوبا مقبولا لدي الباشا، وعندما مات حزن عليه وأسف لفقده.