د. محمد طه
نتفليكس أعلنت عن عرض مسلسل (ما وراء الطبيعة) أوائل نوفمبر القادم.. المسلسل مأخوذ عن سلسلة الأديب الراحل د. أحمد خالد توفيق الشهيرة اللى بتحمل نفس الاسم.
 
قراء ومحبى د. أحمد خالد توفيق منتظرين المسلسل على أحر من الجمر.. ويبدو ان نتفليكس بذلت مجهود وانتاج ضخم لتحقيق حلم عدد هائل من مريدى الكاتب الراحل..
 
لكنى - ومع كل ده- متوقع ان المسلسل مش هايحقق النجاح المنشود..
 
يا ساتر يا رب! ليه كده يا دكتور؟ ايه اللى بتقوله ده؟ انت مش بتحب د. احمد خالد وكتاباته واللا إيه؟
 
فى الحقيقة الموضوع مالهوش أى علاقة بالدكتور أحمد خالد خالص.. اللى للأسف ماكنتش من قراءه أو متابعيه.. الموضوع ليه علاقة بينا احنا.. بتركيبتنا النفسية.. بتعاملنا مع ما نحب وما نكره..

ازاى؟
أقولك ازاى؟
فيه وسيلة دفاع نفسية شهيرة اسمها التقديس Idealization.. بمعنى انك تحب حد معين لدرجة انك تقدسه.. تخرجه خارج إطار البشر.. وتضعه فى مصاف الملائكة.. وأحياناً الآلهة..
 
الحكاية دى بيعملها المحبين فى أول علاقة حبهم.. من أول "دى مافيهاش غلطة" لغاية "ده بيحس بيا من غير ما أتكلم"..
 
وبيعملها الشباب والمراهقين فى علاقاتهم بأستاذهم الشاطر أو مطربهم المفضل: "ده عنده إجابة لكل سؤال".. "ده مش بيكبر فى السن"..
 
وبيعملها الأطفال الصغيرين لآباءهم وأمهاتهم فى سنين عمرهم الأولى: " بابا يقدر يعمل أى حاجة".. "ماما بتعرف اللى باعمله من وراها"..
 
وسيلة دفاع نفسية ليها أسباب ودوافع وأبعاد كتير.. منها إن صاحبها يحس بالأمان.. وبالثقة فى النفس.. وبالراحة.. فى وجود حد/أب (قادر/عارف/كامل)..
 
وهنا المشكلة..
المشكلة ان كتير من قراء ومتابعى الراحل د. خالد توفيق سجنوه بين قضبان حبهم ليه.. وقيدوه بقيود تقديسهم لشخصه..
 
د. أحمد أصبح لهم أيقونة من الخيال.. مثال خارج الحدود.. نجم عال بعيد المنال..
 
فهو (العراب).. وهو من يشعر بنبض القراء بدقة.. وهو من يتنبأ ببعض الأحداث قبل وقوعها..
 
ورغم انه هو شخصيا رفض مرارا تسميته بالعرّاب قائلا: "إن الهالة التي يضفيها قراؤه عليه تزعجه عندما يشعر أنه يُتوقع منه ما هو أكبر من إمكاناته"، إلا أنه محدش يقدر يوقف رغبة العقل الجمعى لجماهير عريضة فى تقديس محبوبهم..
 
احنا لما بنحب.. بنطلع باللى بنحبه سابع سما.. ولما بنكره، بننزل باللى بنكرهه سابع أرض..
 
محبى د. خالد وصلوا به ومعه عنان السماء.. مش هايقتنعوا بأى حاجة أقل من الكمال.. وهو ما لن يحدث فى مسلسل نتفليكس ولا غير نتفليكس..
 
قراء الراحل المبدع خرجوا معه وبه خارج إطار العادى والمألوف.. مش هاينفع ترجع بخيالهم خطوة واحدة للخلف..
 
هؤلاء المنتظِرون بشغف مش هايقبلوا انهم يشوفوا أقل من اللى اتخيلوه.. أو يختبروا أقل من اللى قرأوه.. أو يحسوا أقل من اللى وصلوا ليه..
 
أى بادرة اختلاف هاتكون فى أعينهم نقص..
 
أى انحراف عن المتوقع هايكون قدامهم خذلان..
 
أى تغيير عن الصورة الذهنية المسبقة هايكون ليهم خيانة..
 
علشان كده أتوقع أن يحدث مع مسلسل نتفليكس الوجه الآخر من التقديس.. والنصف الثانى من هذه العملية النفسية.. اسمها نزع القيمة Devaluation.. يعنى التركيز على النواقص.. والتقليل من قيمة الأشياء.. ثم توجيه الغضب نحوها..
 
مقدمات اللى بقوله ظاهرة من دلوقت.. وبتظهر أكتر عند نشر أى صورة من تصوير المسلسل القادم.. فى شكل تعليقات زى (شعر أحمد أمين مش أقرع كفاية).. (انتوا مسترخصين فى الانتاج ليه).. (الممثلة دى مش شبه الشخصية الحقيقية خالص)..
 
مسلسل نتفليكس مخاطرة كبيرة.. مخاطرة الوقوف أمام ما تم تقديسه.. ومواجهة ما هو فوق المواجهة.. والنزول بقمة الخيال إلى أرض التوقعات..
 
المرحوم دكتور محمد أبو دومة كان أستاذ بكلية فنون جميلة جامعة المنيا لما كنت طالب طب بالجامعة.. قابلته مرة واتعرفت بيه ومشينا شوية مع بعض بدون ترتيب مسبق.. قالى بعد ما سمع بعض حكاياتى: "يا بنى لما تحب.. حب بهوادة، ولما تكره.. اكره بهوادة"..
 
احنا - كمجتمع وكثقافة- مش بنعرف نحب بهوادة..
 
احنا بنخنق اللى بنحبه باللى بنستناه منه..
 
وبنسجنه فى توقعاتنا وتخيلاتنا عنه..
 
وبنهوى بيه- بكل سرعة- إلى القمة..
 
آخر لقاء تليفزيونى عمله د. خالد توفيق قال فيه: يوجد لدي خوف مستمر، فالكاتب المحبوب صنم يصنعه القارئ المحب، قد يكسره في أيّ لحظة.
 
اللهم اكفنا شر من يحبنا بلا هوادة.. أما من يكرهنا، فنحن سنتكفل به..