فى مثل هذا اليوم 8اكتوبر 1973م..
مصر تعزف سيمفونية الحرب..

عقب حرب يونيو 67 كان لإسحاق رابين قول مشهور "أحب أن يرقص المصريين على طبولي أنا". وكان قوله حق.. لكن ماذا عساه قال حين شاهد بعينيه إسرائيل وجيشها الذي لا يقهر، وهو يرقص ويرقص على أنغام العزف المصري.. لقد أطلقوا على يونيو67 حرب الأيام الستة.. لكن مصر ردت بحرب الساعات الستة.

في الساعة 05 :2 بعد عبور طائراتنا القناة بخمس دقائق بدأ التمهيد النيراني بالمدفعية ( 2000 مدفع وهاون) بالإضافة إلى لواء صواريخ تكتيكية أرض – أرض.. استمر التمهيد النيرانى لمدة 53 دقيقه على أهداف محدده في خط بارليف وتجمعات دبابات العدو ومراكز قيادته.. كان معدل القصف شديدا، ففي الدقيقة الأولى سقط على المواقع الإسرائيلية أكثر من عشرة آلاف دانة مدفعية بمعدل 175 دانه في الثانية الواحدة.. كان لهذا التمهيد المدفعي دور هام في منع العدو من دفع دباباته لاحتلال الساتر الترابي، وإطلاق النيران على قواتنا أثناء عبورها في القوارب.

وتحت ستر نيران المدفعية عبرت أول عناصر من الصاعقة حتى تسبق العدو في احتلال مصاطب الدبابات التي تقع خلف خط بارليف 1 –2 كم.. ومع التمهيد النيراني بدأ عبور اللواء 130 مشاة أسطول بقيادة العقيد/محمود شعيب عند الطرف الجنوبي للبحيرات المرة، وكذا سرية مشاه عند بحيرة التمساح مستخدمين مركبات برمائية.

في الساعة 20 :2 بدأ عبور 720 قارب تحمل 4000 مقاتل مصري يهتفون من قلوبهم" الله أكبر".. وفى نفس التوقيت بدأ العدو محاولة دفع دباباته لتدعم قوات خط بارليف، لكن قوات الصاعقة سبقته واحتلت المصاطب وبدأت الاشتباك على الفور ودمرت عدد من الدبابات المتقدمة غربا.. كما وأن دباباتنا التي احتلت المصاطب غرب القناة ( والتي وصفها ديان بأن المصريون مغرمين ببناء أهرامات) أخذت تدمر الدبابات المتحركة شرق القناة الواحدة تلو الأخرى..

وصلت الموجه الأولى من المشاة إلى الشاطئ الشرقي واحتلت أجزاء من الساتر الترابي في الفواصل بين النقاط الحصينة.. وكان على المجموعة الأولى هذه أن تقوم بفرد وتثبيت سلالم الحبال (1440 سلم) على الساتر الترابي.. كذا تثبيت علامات إرشاد لأرقام القوارب ( مسلسل من 1 حتى 720 ). كانت الخطة المصرية تصل إلي أدق التفاصيل .. وبدأت عناصر المهندسين العسكريين العمل لفتح الثغرات في الساتر الترابي بقوة 70 فصيلة معهم 350 مضخة مياه .. وفى الساعة الثانية والنصف رفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناه فوق أرض سيناء.

الساعة 45: 2 بدأت المجموعة الثانية من المشاة عبور القناة، ثم توالى عبور الموجات بفاصل 15 دقيقة بين كل موجة واخري... المعركة بالنيران مستمرة بين العدو وقواتنا.. قاتل الإسرائيليون بعنف من داخل حصونهم التي توفر لهم حماية فائقة، واندفعت دباباتهم للقضاء علي قواتنا لكن المفاجأة كانت في انتظارهم فوجدوا رجال المدفعية المسلحين بالمقذوفات المضادة للدبابات توقف تقدمهم وتدمر منهم الكثير.. ارتبكت القيادة الإسرائيلية فهذه أول مرة تقف دباباتهم عاجزة أمام أفراد وليس أمام دبابات.

الساعة 30 : 3 اصبح لنا شرق القناة 14000 أربعة عشر آلاف مقاتل. تقدمت قواتنا حوالي 200 متر شرق الساتر الترابي.. بدأ طيران العدو هجومه علي قواتنا في الثالثة عصرا لكن دفاعنا الجوي تمكن من إسقاط 7 طائرات .. بدأت قواتنا تحاصر نقاط العدو في خط بارليف، وسقطت أول نقطة في منطقة القنطرة شرق.. تم فتح أول ممر في الساتر الترابي.. بدأت وحدات المهندسين بإسقاط براطيم المعديات والكباري وتركيبها فوق القناة.. تم عبور القادة علي ، قادة الفصائل والسرايا عبروا مع الموجات الأولى، قادة الكتائب خلال 15 دقيقة قادة اللواءات خلال 45 دقيقة قادة الفرق خلال ساعة ونصف.

الساعة 30 : 4 موجات المشاة تستمر، لنا علي الضفة الشرقية 1500 ضابط و22000 جندي. قاموا باحتلال 5 رؤوس كباري قاعدة كل منهم 6-8 كم وبعمق 2كم شرق القناة .. في الساعة الرابعة استأنفت إذاعة إسرائيل إرسالها(تتوقف في عيد الغفران) فأصدرت أمرا مفتوح لقوات الاحتياط للتوجه إلى مراكز التعبئة.. القصف المدفعي اكثر دقة لأن ضباط مدفعية يقومون بتصحيح النيران من الشرق.

الساعة 30: 5 اصبح لنا شرق القناة 45 كتيبة مشاه قوامها 2000 ضابط و 30.000 جندي..اصبح عمق رؤوس الكباري 3-4 كيلو متر.. بدأ استيلاء قواتنا علي بعض نقاط خط بارليف..ووصلت خسائر إسرائيل إلى 13 طائرة، فاصدر قائد القوات الجوية الإسرائيلية أمرا للطيارين بعدم الاقتراب أكثر من 15 كم شرق القناة.. قوات الشرطة العسكرية المصرية في الشرق بدأت في تحديد الطرق وترقيمها لمساعدة وتوجيه الدبابات والمركبات التي ستعبر حتى لا تضل الطريق إلى أماكن قتالها.. إبرار كتائب الصاعقة في أماكن متفرقة في سيناء.. وكان لقوات الصاعقة دور هام في نجاح العبور، كان عليهم تأخير وصول المدرعات الإسرائيلية لأطول فترة ممكنة.. ولابد أن نذكر هنا أحد أبطال مصر الرائد/سمير زيتون قائد كتيبة الصاعقة الذي قاد ضباطه وجنوده في عمق سيناء ونفذ المهام المكلف بها، بيده اليسرى فقط بعد أن أصيب عام 70 في التدريب بعجز كامل في يده اليمنى لكنه أبى إلا أن يشارك مع زملائه في تحرير التراب المصري.

الساعة 30: 8 مساء أصبحت معظم نقاط خط بارليف محاصرة.. قوات المهندسين نجحت في إنشاء أول كوبري ثقيل ، ومستمرة في تركيب باقي الكباري، واصبح لنا 21 معدية تعمل بين الشاطئين بدأت في نقل بعض الدبابات والأسلحة الثقيلة.. تم عبور أول دبابة علي الكوبري.. اصبح لنا 80000 مقاتل علي الضفة الشرقية.. سقطت 15 نقطة حصينة في أيدي قواتنا.. المشاة تسيطر وتعزز مواقعها علي الشاطئ الشرقي.

الساعة 30 : 10 مساء أتم رجال المهندسون العسكريون فتح 60 ممر في الساتر الترابي وتم إنشاء 8 كباري ثقيلة و4 كباري خفيفة وتشغيل 30 معدية.. لم يتم إنشاء الكباري المخصصة للفرقة 19 مشاه في قطاع الجيش الثالث في التوقيت المحدد لاختلاف طبيعة التربة التي كانت تكوّن" روبه" عند اختلاطها بالمياه، حتى أن دبابة غرزت في هذه الروبه. على الفور أمر قائد الجيش بإلقاء الدبابة في القناة، واستعان بشركات المقاولات والطرق المدنية التي كانت موجودة على القناة للخداع. وتمت تغطية الفتحات بالحصائر المعدنية وتم استخدام الكوبري متأخرا عدة ساعات.. وصلت خسائر العدو 27 طائرة.

ليلة 6 / 7 أكتوبر قام العدو ليلا بهجمات مضادة نجحت قواتنا في صدها عدا حالتين نجح العدو في الوصول بدباباته إلى شاطئ القناة وتدمير بعض المعديات.. العدو يقاتل بشراسة، قبل الصباح استطاعت قواتنا بهجوم مضاد تدمير دبابات العدو وإجباره علي الانسحاب شرقا.. تمكن المهندسون المصريون من إصلاح الكباري التي تعطلت..قامت 3 طائرة هليكوبتر مي 8 بمهاجمة مناطق البترول في بلاعيم، فأشعلت بها حرائق هائلة وتمكن العدو من إسقاط طائرة منها وتم اسر طاقمها.. 2طائرة قاذفة ت- يو 16 تقذف بالصواريخ محطات رادار وإنذار للعدو شرق خليج السويس.. دباباتنا تنضم إلى قوات المشاة بعد أن قاتلت بمفردها 8 ساعات.. فرق المشاة تندفع لتعمق رؤوس الكباري إلى 6-8 كم شرقا.. القوات البحرية تقوم بمهاجمة أهداف علي ساحل سيناء بقصفات مركزة من المدمرات. وتقوم بتلغيم الشاطئ الشرقي لخليج السويس. ونتيجة لهذا غرقت ناقلة البترول سيراس(46 ألف طن) والناقلة باترا(2000 طن).وتوقفت السفن الإسرائيلية.

لقد نجح العبور.. واستردت مصر كرامتها، واصبح لها في الضفة الشرقية 2 جيش ميداني.. وتدمر خط بارليف الأسطورة وهُزم الجيش الذي لا يقهر.. وفر وُقتل ووقع في الأسر الجندي الإسرائيلي (السوبر مان).. وقطعت ذراع إسرائيل الطويلة بواسطة دفاعنا الجوي.. وكانت خسائرنا في اليوم الأول مذهلة بما لا يخطر علي بال صديق أو عدو.. فبعد التقدير السوفيتي الذي كان يؤكد خسارة 30% من حجم القوات في العبور ، أسفرت الأحداث عن فقد10 طائرات –20 دبابة -280 شهيد سبقوا زملاءهم إلى جنة الخلد.. نود أن نذكرهم جميعا، لكن الحيز لا يسمح فنكتفي بذكر بعض منهم وأعمالهم فقط كرمز مثال العميد مهندس/ احمد حمدي الذي اندفع بحماس وإحساس عالي بالمسئولية إلي قطاع الجيش الثالث لمتابعة المشاكل التي أدت لتأخير تركيب الكباري. وعلى شاطئ القناة تصعد روحه إلى بارئها شهيدا ضاربا أروع الأمثلة في التحام القائد الكبير بالجندي المقاتل... الرائد/ محمد زرد قاد سرية من المشاة والمهندسين لمهاجمة نقطة حصينة من نقاط خط بارليف تعوق إنشاء كوبري في قطاع الجيش الثالث. وتوقفت القوه عن التقدم لان هناك رشاش داخل النقطة يمنع التقدم. فما كان منه إلا أن زحف بمفرده والتف من خلف النقطة وقام بإلقاء القنابل من المزغل الذي به الرشاش لكن دبابة كانت في الموقع تمكنت منه، لكن باقي القوة تقدم وسيطر علي النقطة... الجندي/ محمد حسين مسعد كان من المفارز الأولى التي عبرت قبل قوات المشاة لتعطيل دبابات العدو وبالفعل تمكن مع مجموعته من تنفيذ المهمة.. واستشهد وهو يقاتل ويبلغ قائده أن الدبابات الإسرائيلية علي بعد 10 أمتار من موقعه. والحديث عن البطولات المصرية يطول.. فالجميع تسابق وتنافس لتحقيق المهام .. كانت الوحدات كلها على قلب رجل واحد، وسنكتفي بمثال واحد رمز للعسكرية المصرية التي خططت ونفذت بأروع ما يكون.

كانت الكتيبة 73 صاعقة بقيادة الرائد/ علاء الصاوى مكلفة بالتوغل شرقا أمام الفرقة 18 مشاه لمسافة 20 كيلومتر، وعمل كمائن لمنع وتعطيل احتياطات العدو المدرعة القادمة من عمق سيناء.. وفى صباح 6 أكتوبر، التقى العميد/ فؤاد عزيز غالى قائد الفرقة مع قادة الكتيبة والسرايا لتأكيد المهام، وأهداهم مصحفا من قيادة الفرقة، مع تشجيعه لهم قائلا

- أنا متأكد يا رجاله إنكم قد المهمة ومش حاتعدّوا دبابة يهودي واحدة، علشان الفرقة تشتغل براحتها..

ومع بدء القصف المدفعي عبرت الكتيبة في دقائق ومعهم قائد المجموعة العقيد/على هيكل الذي اطمأن عليهم، ثم ودعهم منطلقين على ثلاث محاور. سريه على محور الفردان وأخرى على محور كثيب الدرب والسرية الثالثة على محور جلبانه. كانت مواقع الكمائن على بعد 20 كيلومتر من القناة لكن السرية على محور جلبانه اشتبكت مع العدو على بُعد 3 كم واستشهد منها9 أفراد، فاتخذت مواقعها الدفاعية في منطقة الاشتباك وتمسكت بالأرض وأوقفت تقدم العدو..

تمكنت السريتان الأخريان من الوصول إلي مواقعهما سيرا على الأقدام في الواحدة بعد منتصف الليل.. واتخذ أفراد الكمائن مواقعهم المدروسة مسبقا والتي تم التدريب عليها عشرات المرات.. وبعد ساعتين تقريبا ظهرت دبابات العدو وهى تتحرك ُمسرعة نحو القناة. وبأمر من الرائد/علاء اندفع مقاتلو السرية بعدد 24 قاذف صاروخي أر.بي.جى ومن على مسافة 50 –100 متر انطلقت القذائف المصرية فدمرت العربة الأولى (عربه جيب) ثم عربه مدرعة تليها + 3 دبابة . ولم يستغرق الهجوم سوى لحظات، وتوقف العدو وتخيل أن هذا القصف المكثف لابد وأن يكون من قوه رئيسيه وليس كمين صاعقة، فما كان من باقي الدبابات إلا أن تراجعت شرقا مرة أخرى.

وانتهى تنفيذ المهمة وبقى العودة إلي القناة. وبتقدير للموقف أصبح التحرك مستحيل لأن النهار بعد ساعة والعدو سيتمكن منهم.. كان القرار التقدم شرقا 2 كم والاختباء في كودي الحشائش طوال النهار ثم الانسحاب ليلا. وجاء العدو في الصباح وقام بتفتيش المنطقة بالهليكوبتر والدوريات، لكن نجحت الخطة وانسحبت الكتيبة سالمة إلا من 9 شهداء وأصابة واحده(علي محور جلبانه).. كان أبطال هذه المعركة غير قائد الكتيبة.. الرائد/محيى حشاد والنقيب/عبد الرازق المعبدلى-أحمد حنفي جبر-محمد الغريب.

كانت إسرائيل هي اكبر من خدعت نفسها.. فبعد يونيو 67 وكجزء من الحرب النفسية روّجت إسرائيل أسطورة ضخمة حول قوة جيشها وقدرته اللامحدودة، في مقابل عجز عربي لا يستطيع أن يواجه هذه القوه. وصدقت إسرائيل كلها هذه الأسطورة وتشبعت بها. ونقرأ تصريحاتهم بعد قيام الحرب لنرى كيف كان الفكر الإسرائيلي. فقد عرفنا ماذا قال دايان في مجلس الوزراء صباح 6 أكتوبر.. وحين اندلعت الحرب علي عكس كافة التوقعات الإسرائيلية خرج دايان في مساء نفس اليوم ليقول وهو يضع تصور للمعركة "سوف ينتهي القتال في ستة أيام، فيومان يكفيان لاستكمال التعبئة الشاملة ويومان لإيقاف الهجوم علينا ويومان لتدمير قوات العدو علي الجبهتين".

وقال اليعازر رئيس الأركان" سنحطم لحمهم في عظامهم"

وقالت مائير" لقد أصابهم الجنون" تقصد المصريين أنهم حاولوا العبور.

وفي المقابل كانت النغمة المصرية هادئة ومتماسكة تماما.. فصدر البيان العسكري الأول الساعة الثانية وعشر دقائق يقول" قام العدو في الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقتي الزعفرانه والسخنة بخليج السويس، بواسطة عدة تشكيلات من قواته الجوية، عندما كانت زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربي للخليج، وتقوم قواتنا حاليا بالتصدي للقوات المغيرة.

وفي الرابعة عصرا صدر البيان الخامس بنفس النغمة الهادئة يقول" نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة واستولت علي نقط العدو القوية بها. ورفع علم مصر علي الضفة الشرقية للقناة. كما قامت القوات المسلحة السورية باقتحام مواقع العدو في مواجهتها وحققت نجاحا مماثلا في قطاعات مختلفة".....!!