سحر الجعارة
من أين يولد «القهر» وكيف ينتهى؟، يبدأ القهر كلما اتسعت دائرة المحظورات باسم الدين أو العادات والتقاليد أو باستغلال ثغرة قانونية.. يبدأ القهر كلما زادت «التابوهات المقدسة» وارتفعت أسوار المحرمات، وصادر «التابو» الحرية ومنع العصافير من أن تغرد، وفرض على المجتمع الصمت فلا صوت يعلو فوق كلمة «حراااام»!

كنت محظوظة حين قابلت رئيسة الجمهورية المنتخبة للمجلس الوطنى للمقاومة الإيرانية، «فى المنفى»، «مريم رجوى»، وهى زعيمة حركة المعارضة «مجاهدى خلق»، وفى قاعة «ألبرت هول» بلندن، كانت حفلة المطربة «مرضية» - رحمها الله - التى كانوا يلقبونها بـ«أم كلثوم» إيران، الحفل أقيم تحت عنوان «المرأة صوت المقهورين».. كان صوت «مرضية» كفيلاً بأن يزلزل عرش «آية الله الخمينى» الذى أصدر مرسوماً يقول: «لا ينبغى أن تسمع أصوات النساء من قبل رجال غير أفراد عائلاتهم».

ومن أقوال «مريم رجوى» أن المقاومة الإيرانية تمثل تحدياً سياسياً واجتماعياً وثقافياً وعقائدياً خطيراً بوجه الملالى الحاكمين فى إيران.. نعم إيران هذا الطاووس الفارسى الذى يهدد العالم العربى ويمد نفوذه لنشر الفوضى والصراعات الطائفية فى المنطقة.. تهزه «امرأة».. وتهدده أغنية.. لأن الأغنية أقوى من الرصاص؛ إنها تعكس «الثقافة والفكر والوجدان» وهذا هو جوهر الثورة على الفاشية الدينية.

قبل أن ينتهى الإخوان'> حكم الإخوان بقليل، كتب الشاعر الدكتور «مدحت العدل»: (إحنا شعب وانتو شعب).. وغناها «على الحجار» لتعبر عن الفُرقة والانقسام داخل البيت الواحد الذى فعله الإخوان، وكالعادة بدأت موجة «التكفير».. فكلمات الأغنية تقول: (إحنا شعب وانتو شعب.. واللى هز القلب منا /عمره ما هزلكو قلب.. رغم إن الرب واحد/.. لينا رب... وليكو رب).. ودخلت قناة «الجزيرة» على الخط للهجوم على صناع الأغنية.. رغم أن كلمة «رب» تقال عن رب العمل ورب الأسرة وما إلخ!.

ورحل الإخوان بلا رجعة، لكن بقيت «مرجعيتهم الدينية» وأدبياتهم، بقيت «دعاوى الحسبة» لإرهاب المثقفين والمبدعين، بقى المناخ الحاضن للتطرف الخالق للإرهاب الذى يحاول رجاله تكريس «الدولة الدينية» ولو بإرهاب مطربة مشهورة ليخضع الجميع للكهنوت الدينى!

المطربة «أصالة» تواجه دعوى «ازدراء أديان»، بسبب أغنيتها «رفقاً» التى تدافع عن المرأة وتقول كلماتها: (رفقاً بمن عنهن قيل، استوصوا خيراً بالنساء، فقد خُلقن بضعفهن، وزادهن الله حياء، هن السكينة فى المحن، هن المعونة للرجال، جُمّلن بلباس التُقى، زُيّن بأحب الخصال، فيهن من فاضت عليها من السماء المعجزات، هن الشقائق والسكن، والغاليات المؤنسات، ولهن باع يُحترم، فى العطف والجود والكرم).

وما إن ظهرت الأغنية حتى انتفض «التابو المقدس» ليمارس سطوته على العباد، فسارع مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف لينصح المسلمين كافة بعدم التعرض لسماع مثل هذه الأغانى أو التغنى بها أو ترويجها، وقال فى بيانه: (إن ما جرى تداوله فى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى مؤخراً من اقتباس الأغانى بعض جمل من أحاديث النبى، صلى الله عليه وسلم، أمر لا يليق بمقام النبوة ولا مكانة الأنبياء، عليهم أفضل الصلاة والسلام، ولا يجوز شرعاً، لما قد يلابس أداء «الأغانى» ويلتصق بها من أمور تتنافى وجلال النبوة).

كان الرد الأول من مؤلف الأغنية «محمد أبونعمة» بأنه لم يقتبس من الحديث وإنما استشهد وأن الاستشهاد مباح، ولم يجد أفضل من النبى محمد ليستشهد بكلامه فى معاملته للمرأة.

وأكد أن الاقتباس موجود فى الشعر منذ ما يقرب من ألف سنة، وأن أغلب الشعراء اقتبسوا من القرآن الكريم والحديث النبوى، مشيراً إلى أن الأغنية قريبة من الإنشاد الدينى.

وأشار «أبونعمة» إلى رأى الشيخ «أسامة الأزهرى» الذى أكد أنه لا يوجد مانع من غناء الأغنية بهذا الشكل ويكون فيها اقتباس من حديث شريف طالما تقدم رسالة محترمة وتخدم غرضاً نبيلاً.

أما الدكتورة «آمنة نصير»، أستاذ عقيدة وفلسفة، وعميدة كلية الدراسات الإسلامية السابقة، فقالت إن (هذا شىء جميل، والمنشدون طوال الوقت ينشدون بمثل هذه الكلمات الجميلة، ولا غضب أو غضاضة، فما المانع، فهذه السيدة أتت بجزء من الحديث واستخدمته بشكل راقٍ ومحترم، فما الضرر؟ أعتقد أن المعنى فى سياق الأغنية سيصل للناس بشكل أسرع من الشيوخ، الكلام محترم وفى سياق محترم ومصحوب بلحن محترم).

وأضافت أن الأنصار استقبلوا النبى بالغناء ولم ينههم، وعن رفض مجمع البحوث قالت: (لا أرى داعياً للرفض، فلن يضير الإسلام نشيد أو أغنية، فالنوايا ليست سيئة، وأثق بأن الرسالة ستصل أسرع ألف مرة من «المنبر»).

إذن نجيب عن السؤال الذى بدأت به المقال: كيف نرفع القهر؟.

لا بد أولاً من رفع «الوصاية الدينية» عن المجتمع، فمجمع البحوث الإسلامية هو من صادر رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ فكانت النتيجة طعنه بمدية حتى شارف على الموت، وهو من تسبب فى تفريق الدكتور «نصر حامد أبوزيد» عن زوجته حتى هاجر ثم عاد ليموت كمداً، وهو من أدخل المفكر التنويرى «إسلام بحيرى» السجن.. إلخ ضحاياه. إنه سيف الأزهر الذى تغول على السلطة المدنية ليصبح دولة داخل الدولة.

ثم لا بد من تنقية القوانين من المواد «السالبة للحريات» مثل المادة 98 من قانون العقوبات، التى تقف عقبة أمام كل جهود إصلاح الخطاب الدينى الذى طالب به السيد رئيس الجمهورية «عبدالفتاح السيسى»، وتمنع كل محاولات الاجتهاد.

وأخيراً، إن تم الحكم على المطربة «أصالة» بالحبس أو الغرامة فسوف تتساوى مصر بإيران فى حكم الفاشية الدينية، وساعتها قد تذهب إلى لندن لتغنى «أصالة» أغنيتها ويعلو صوتها فى حفل بعنوان «أصالة صوت المقهورين»!!
نقلا عن الوطن