فيفيان سمير
تتأبط ذراعه صاعدان السفينة المتجهة إلى مارسيليا كأنهما عروسين في شهر العسل، رغم انه من الواضح تجاوزهما الاربعين من عمرهما، سعيدين مبتسمين، لكن ليس كل ما يبدو للناظر هو الحقيقة كاملة.

هو كابتن الباخرة الذي يعمل عليها منذ عشرين عاما تقريبا، يغيب عن منزله وزوجته لمدة شهر ويعود في اجازة لمدة اسبوع واحد فقط، ليعاود السفر بعده، دائرة تطويهم طوال هذه السنوات دون تغيير.

هي النمط المعروف للزوجة والأم، تحملت غيابه الدائم عن المنزل وعن حياة ابنائهما، تحملت المسؤولية وحدها الى أن وصل ولديها للجامعة وقررا استكمال دراستهما بالخارج، وخلت دنياها بسفرهما، و أصبح الوقت لا قيمة له ولا معنى وتضاعف احساسها بغياب زوجها الى الحد الذى حول حياتها جحيما انعكس على زوجها في بعاده وأحال أجازته الى عذاب ونكد، الى أن تفتق ذهنه لفكرة رائعة، ان يأخذها معه الرحلة القادمة وتستطيع كذلك زيارة اولادهما في مارسيليا حيث وجهة السفينة، كان اقتراحا عبقريا أطارها فرحا وبدل حالها الى عروس تجهز لعرسها وأحلى أيام عمرها، فهذه أول مرة ترافقه منذ بداية زواجهما .

صعدا السفينة وأخذها الى قمرتهما، ثم غادرها ليقوم بعمله كقائد للسفينة مع وعد بعودته سريعا بعد بدء الرحلة واصطحابها في جولة على متن الباخرة، انتظرت عودته لأكثر من ثلاث ساعات ثم قررت الخروج وأخذ جولتها بمفردها.

قضت قرابة الساعتين تتجول في المكان، وتستمتع بالمنظر الساحر للبحر، ثم اتجهت الى المطعم لتناول وجبة خفيفة وفنجان شاي، جلست تنظر حولها فكل الموجودون بالمكان أسر، معظمهم في أجازه ويستمتعون بوقتهم بالحديث والضحك وممارسة بعض الألعاب، ولكن هناك ايضا بعض أشخاص قليلون جالسون كلا بمفرده. سرحت مع امواج البحر المتلاطمة ونسمة الهواء المداعبة لوجهها الذي مازال يحتفظ بمسحة جمال واضحة وإن كانت لا تخفى أثار الزمن.

انتبهت لصوت أحدهم معلقا على جمال البحر والراحة النفسية التي تملأ الروح بمجرد النظر اليه، فابتسمت موافقة مما شجع محدثها على مد يده للتعارف واستأذن في مشاركتها المائدة ان لم يكن لديها مانع، فوافقت حيث انه كان يبدو عليه الوقار والاحترام والوحدة ايضا.

بدأ بالحديث عن نفسه، فهو رجل أعمال مصري، يجوب معظم العواصم الاوروبية بمقتضى عمله، وعادة ما تكون الطائرة وسيلته لذلك، لكنه هذه المرة قرر استخدام الباخرة لأخذ اجازة من اعماله والابتعاد قليلا عن مشاغله والاسترخاء من الضغط العصبي المتصل، بحسب نصيحة طبيبه، خاصة انه وحيد لم يتزوج وليس له اسرة تشاركه اجازته.

اجابته بتعريف نفسها انها زوجة وام لشابان يدرسان في فرنسا، وهي ذاهبة لزيارتهما، اخذت تحدثه عنهما فهما عشقها وانجازها العظيم خلال العشرون سنة الماضية.

استمرت جلستهما ساعات، افرغت خلالها مخزون سنوات من الصمت، كأنها اشتاقت لسماع صوتها فلم تكف عن الحديث وجاليسها مستمتع بنفس القدر فهو ايضا اشتاق للأحاديث البعيدة عن مفردات الاقتصاد والمال والاعمال.

حل المساء وذهب كل منهما لقمرته لتغيير ملابسه والاستعداد للعشاء وليس في نية أيا منهما تكرار هذه الجلسة، دخل زوجها متوجسا غضبها وثورتها بسبب غيابه اليوم كله عنها، لدهشته وجدها هادئة مبتسمة ومستعدة للعشاء فكانت سعادته غامرة، حتى انه لم يفكر في الاعتذار لها عن غيابه، بدل ملابسه وانطلقا للعشاء الذي تناوله سريعا في صمت، واستأذنها في العودة لعمله الذي يواجه بعض المشاكل.

اكملت عشاءها، وبدأ يعاودها احساس الوحدة القاتل، الذي لم تعد قادرة علي احتماله او التكيف معه، خاصة بعد خيبة املها في ان يكون زوجها حاضرا معها خلال الرحلة، استغرقت في صفحة المياه الهادرة امواجها كأفكارها في تلك اللحظة، ولم ينقذها من حزنها الا ذلك الصوت الذي اخرجها من شرنقة الصمت صباحا، رفيق الرحلة الذي سرعان ما تحول الي صديق، تقضي معه يومها كله ومساءها وسهراتها ايضا، عرف الضحك طريق شفتيها التين تيبستا صمتا، وعرفت السعادة طريقها إلي دهاليز قلبها الذي ظنته قد شاخ، عادت الحياة إلي ايامها والروح إلي جسدها، عرفت الفرح واللهفة والانتظار بمعنى مختلف عن الذى اعتدته، نعم هي علي اعتاب الخمسين من عمرها لكن الروح مازالت عذراء .

احساس جديد يغزو قلبها المغلق على ولديها منذ عقود، نظرة عين تحتضن شتات الروح وتعيد بناءها، حياة لأيامها المدفونة في قبر الاهمال والانتظار اليائس، شباب يتجدد وامل يولد، دفئ انفاس الونس المفقود خلف ظل ثلوج الوحدة الجاثمة على صدرها، اندفعت خلف احتياجها للحياة مستمتعة بكل لحظة كأنها طفلة تلهو على شواطئ العمر.

انقضت أيام السفر واصبحوا على مشارف السواحل الفرنسية، الكل يستعد لمغادرة الباخرة، استيقظت من الحلم الذي استغرقها اسبوعين هما مدة الرحلة وهما خارج سنوات عمرها او بالحرى هما كل عمرها، في مشهد سينمائي موجع ذهبت لتودعه وتودع السعادة التي سرقتها من خلف الزمن، طلب ان يظلا صديقين، فاعتذرت مذكرة اياه انها زوجة وأم لشابين هما كل حصاد عمرها الذى لن تفرط فيه، مؤكدة له انها لن تنسى هذا الحلم الذي ربما يكون زادها إلي منتهي ايامها على الارض، لكنها لا تستطيع التمادي فيه وإن كانت قد عزمت على الانفصال والبقاء مع ابنائها.

ظهر الزوج ليصحبها لمغادرة السفينة اخذا ذراعها في ذراعه ولم يدرك ان زوجته التي صعد بها هذه الدرجات ليست هي الهابطة معه الان، رحلت عن هذا الجسد ولن تعود.